Articles – Al Bawsala https://www.albawsala.com Thu, 05 Sep 2024 11:20:14 +0000 en-US hourly 1 عودة على مسار ميزانيّة 2024: التّمادي في نهج التّقشّف والمديونيّة رغم الشعارات السيادوية https://www.albawsala.com/en/publications/20246607 https://www.albawsala.com/en/publications/20246607#respond Wed, 24 Jul 2024 14:30:09 +0000 https://www.albawsala.com/?p=6453 صادق “مجلس نواب الشعب” على مشروع قانون الماليّة لسنة 2024 يوم 10 ديسمبر 2023، وختمه الرئيس قيس سعيّد، من دون الحديث عن “إكراهات” مثلما كان الحال عند المصادقة على مرسوم قانون المالية 2023. قانون الماليّة لهذه السنة لم يشذ عن سابقيه من ناحية المقاربة المحاسباتية وخيارات التقشف والمديونية عكس ما يرفعه الرئيس من شعارات ثوريّة، ولكنّ أبرز ما ميّزه هو الغموض، حيث لم يفصح عن مصادر قسم كبير من التمويل الخارجي بعد أن غيّبت فرضية التمويل من صندوق النقد الدولي.

في حين كان الرئيس قيس سعيد يرفع شعارات القطع مع صندوق النقد الدولي ظلّت حكومته تفاوضه لأشهر وكانت قريبة من الوصول إلى اتفاق قبل أن يعلن “القطيعة” التي ترجّح إحدى الفرضيات ارتباطها باشتراط الصندوق توقيع رئيس الدولة ما يعني “توريطه” سياسيا بمضمون الاتفاق1 وتحميله مسؤولية إملاءات كان من السهل تحميلها لوزرائه. فرضية قد يدعمها عامل التوقيت حيث لم يعلن قيس سعيد عن رفضه للإملاءات إلا بعد نهاية المفاوضات2 وتعطّل الاتفاق.

في كل الحالات، بالنظر إلى مختلف محاور هذا القانون، يتبيّن أنه أتى بنفس الخيارات التي ترجمت في جلّ قوانين الماليّة السابقة بعد ما يقارب الأربعة عقود منذ تبنّي الدّولة التونسية برنامج الإصلاح الهيكلي بإملاء من صندوق النّقد الدّولي. تتمثّل هذه الخيارات في تبنّي نهج تقشّفي من ناحية الإنفاق على المرافق العموميّة بالتوازي مع التّعويل المبالغ فيه على الاقتراض الخارجي.

هكذا، لم تتجاوز “القطيعة” مع إملاءات الصندوق مستوى الخطاب الموجه للداخل بينما ترجم قانون المالية جلّ ما “تطالب” به المؤسسة المالية الدولية من “إصلاحات” للخروج من الأزمة.

تغييب للعدالة الجبائية وتعويل على التداين الخارجي

تقدر جملة موارد الدولة لسنـة 2024 بحوالي 77868 م.د مسجـلة بذلك تطــــورا بـ 9.3 % مقارنة بالنتائج المحيّنة لسنة 2023. وتتوزّع هذه الموارد إلى موارد الخزينة المقدّرة بـ 28708 م.د ومداخيل الميزانية المقدّرة بـ 49160 م.د. وتتوزع هذه الأخيرة بين مداخيل جبائية مقدّرة بـ 44050 م.د ومداخيل غير جبائية مقدّرة بـ 4760 م.د وهبات في حدود 350 م.د.

شهدت المداخيل الجبائيّة تطوّرا بـ 4562 م.د أي بـ 11.6% بالنّسبة للسنة الفارطة. فإذا ما استثنينا تطوّر المداخيل الجبائيّة المتأتّية من التّوريد لتعلّقها بنسق تطوّر الواردات، فإنّ التطوّر الحاصل على مستوى المداخيل الجبائيّة يتعلّق أساسا حسب وزارة المالية بتحسّن في مردود الإجراءات الجبائية لسنة 2024 وبتحسين مجهود الاستخلاص من قبل إدارة الجباية.3

إلاّ أنّ التساؤل المطروح في علاقة بموارد الميزانيّة يتمثّل في مدى فعاليّة عمليّات الاستخلاص من جهة وبمدى تعويل الدّولة على مواردها الذاتيّة (أو ما يعرف إعلاميا بالتّعويل على الذّات) من عدمه. أي بعبارة أخرى إلى أي مدى تتمكّن الدّولة من توفير موارد دون اللّجوء إلى الاقتراض الخارجي المقترن عادة ببرامج “إصلاح” تكون مملاة من المؤسّسات الدّوليّة المانحة.

وسيتعرض هذا المقال بالتحليل أولا للبعد الجبائي ومدى عدالة النظام الجبائي الحالي وثانيا لموارد الاقتراض بصفتها أحد أهم موارد الميزانية التي يقترحها هذا القانون كسابقيه وسيستعرض في الختام تطوّر نفقات الدولة خاصة فيما يتعلق بقطاعات تقدّم خدمات أساسية كالصحة والتعليم والنقل.

1. مساهمة غير عادلة بين الأجراء والفئات المرفهة في المجهود الجبائي

ضرب لمبدأي العدالة والإنصاف من خلال نظام تحصيل الموارد الجبائيّة

ينصّ دستور 2014 في فصله العاشر على أنّ “تحمّل التكاليف العامة واجب وفق نظام ضريبي عادل ومنصف” أمّا دستور قيس سعيد (2022) فهو ينص في فصله الخامس عشر على أن “أداء الضرائب والتكاليف العامة واجب على كل شخص على أساس العدل والإنصاف”.

ترتكز ميزانيّة الدّولة أساسا على الجباية كرافعة لتحصيل مواردها إذ تمثّل الضرائب المباشرة وغير المباشرة تقريبا 90٪ من الموارد الذاتية للدولة (أي دون احتساب موارد الاقتراض). وتتكون هذه الموارد أساسا من الضريبة على الأشخاص الطبيعيين بنسبة 25% والضرائب على الاستهلاك (المعلوم على الاستهلاك والأداء على القيمة المضافة) بنسبة 33% والضريبة على الشّركات في حدود الـ 12%. إلى جانب الأداءات الديوانية وضرائب غير مباشرة أخرى كما هو مبيّن في الرسم البياني التّالي.

رسم عدد1: توزع نسبة مساهمة مختلف الموارد الجبائية في ميزانية الدولة لسنة 2024 المصدر: البوصلة- أرقام وزارة الماليّة

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ حجم الموارد المتأتّية من الضريبة على الأشخاص الطبيعيين تضاهي تقريبا حجم الموارد المتأتية من الأداء على القيمة المضافة. فقد دأبت جلّ الحكومات المتعاقبة على هذا التّمشّي المرتكز على المبالغة في استعمال الضّرائب غير المباشرة كوسيلة لتحصيل موارد للميزانيّة على غرار الإجراءات المنصوص عليها بقانون المالية لسنة 2024 والمتعلّقة بتوسيع إتاوة الدّعم من 1 إلى 3 بالمائة على المشروبات الغازية والمشروبات الكحولية والجعة. وهو ما يضرب فكرة العدالة الجبائية في مقتل. إذ يتحمّل العبء الجبائي في

حالة الضرائب غير المباشرة كلّ شرائح المجتمع بنفس القدر بما أنّها نسب غير تصاعديّة، أي أنّ الشرائح الميسورة تتحمّل نفس العبء المسلّط على الشّرائح المفقّرة وهو أمر يتعارض مع مبدأي العدالة والانصاف.4

وإذا ما قارنّا بين نسبة المداخيل الجبائيّة المتأتّية من الضريبة على الأشخاص الطبيعيين (28% من جملة الموارد) من جهة وتلك المتعلّقة بالشّركات (13% من جملة الموارد) من جهة أخرى، فإنّنا نستنتج أنّ الجهد الضريبي في النظام الجبائي التونسي يرتكز وبشدّة على الأجراء. بما أنّ نسبة مساهمة الشّركات تعدّ ضعيفة جدا فهي تتعادل تقريبا مع ما تستخلصه الدّولة من المعلوم على الاستهلاك.

اختلال في الإنصاف بين أصناف المداخيل

تعتبر الضريبة على الأشخاص الطبيعيين رافعة هامّة لتحصيل موارد جبائية. ويجب أن نؤكّد أنها كلّما كانت مستندة إلى أساليب تصاعديّة، كلّما كانت النتيجة تحصيل قيمة أكبر من الموارد ليتمّ فيما بعد إعادة توزيعها وبالتّالي تتحقّق فكرة الإنصاف الجبائي. وتنطبق هذه الضريبة على أصناف مختلفة من المداخيل كالمرابيح غير التجاريّة (المهن الحرّة) والمرابيح الفلاحيّة والأجور إلخ …

لطالما تتحمّل الأجراء لوحدهم.ن العبء الأكبر من الجهد الجبائي فيما يخصّ الضريبة على الدّخل، إذ يساهم هؤلاء بمعدّل يقارب الـ 75% من المداخيل منذ الشروع في تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي أواخر الثمانينات.5

لم يشذّ قانون الماليّة لهذه السّنة على هذه القاعدة في تواصل لسياسات جبائيّة متناقضة تماما مع يقتضيه مبدأ الإنصاف الجبائي. حيث تقدّر نسبة إسهام الأجراء بعنوان الضريبة على الدّخل في حدود الـ 70%. بينما يشجّع النظام الجبائي التونسي أصنافا أخرى من المطالبين بالأداء على التّهرّب من دفع ضّرائب متناسبة مع قدرتهم الإسهامية على غرار المهن الحرّة. حيث بيّنت منظمة البوصلة في تقارير سابقة لها6، نقلا عن تقرير لجمعيّة الاقتصاديين التونسيين (ASECTU)، بأنّ هؤلاء لا يساهمون إلاّ بقدر ضئيل جدا في المجهود الجبائي مقارنة بمداخيلهم وقدراتهم الإسهامية العالية في أغلب الأحيان، على سبيل المثال، تبلغ نسبة عدم الخلاص 30% لدى المهندسين (الاستشاريين)، 34% لدى المهندسين المعماريين وتتجاوز ال50% لدى مكاتب الدراسات والاستشاريين.

تبقى الفكرة الأهمّ التي يمكن التطرّق لها عند الحديث على الضريبة على الأشخاص الطبيعيين في علاقة بمسألة العدالة الجبائيّة هي أنّ هذا النوع من الضرائب لا زال يشكو من ضعف فيما يتعلّق بمفهوم التصاعديّة. فقد تمّ إرساء جدول ضريبي منذ الشّروع في تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي أواخر الثمانينات تمّ من خلاله التقليص في عدد الشّرائح والنسب الضريبيّة وبالتالي تكريس مقاربة تتعارض تماما مع مبدأ الإنصاف الجبائي. وحتّى التعديلات التي طرأت عليه خاصّة في سنة 2017 والتي تمّت تحت عنوان “الإصلاحات” لم تؤدّ إلا لمزيد تعميق السياسات المملاة من قبل المؤسسات المالية المانحة.7

ومن بين المقترحات الضروريّة والعاجلة التي تطرحها منظمة البوصلة لإعادة توزيع الجهد الجبائي بطريقة أكثر إنصافا هي العودة إلى الجدول الضريبي الذي كان حيّز التّنفيذ قبل هذه “الإصلاحات” والذي كان يحتوي على 18 شريحة دخل مقابل خمسة شرائح حاليا8.

مساهمة شحيحة في المجهود الوطني من قبل الحيتان الكبرى

بالعودة إلى الرسم البياني عدد1 المتعلّق بتوزيع الموارد الجبائية، يمكننا أن نلاحظ أنّ نسبة الموارد المتأتّية من الضريبة على الشّركات مقدّرة بـ 13% من الموارد الجبائية أي ما يعادل أقلّ من نصف مردود الضريبة على الأشخاص الطّبيعيّين. ويعود سبب هذا المردود الضّعيف إلى ضعف معدّل الضريبة المنطبق على الشّركات أي 15%. هذا المعدّل تمّ النّزول به من 30% إلى 25%، في مرحلة أولى سنة 2014، ثمّ إلى 15% الحالية (منذ سنة 2021) تطبيقا لإصلاحات صندوق النّقد الذي يعتبر أنّ التخفيض في هذا المعدّل وتوسيع القاعدة الجبائيّة سيكون له مردوديّة هامّة على مستوى الموارد الجبائية فيما يتعلّق بالضريبة على الشّركات. إلاّ أنّ الأرقام تثبت عكس ذلك، حيث لم يمكّن التطور الطفيف لمردود الضريبة على الشّركات في السّنوات القليلة الفارطة من التّرفيع في الموارد كما تمّ الترويج له.

ويبيّن الرّسم البياني التالي مستوى تطوّر الضريبة على الأشخاص الطبيعيين إلى جانب الضريبة على الشّركات منذ 2009. ويمكننا من خلاله ملاحظة الهوّة بين الفئتين في علاقة بتحصيل الموارد الجبائية.

المصدر: البوصلة، العدالة الجبائية رهان مصيري في متناول تونس، 2022، ص 5.

لذلك نؤكّد مرّة أخرى على مقترحاتنا السابقة المتعلّقة بالعودة بمعدّل الضريبة على الشّركات إلى مستوى 25% الذي كان منطبقا قبل 2021 على الأقلّ في مرحلة أولى، إلى حين إرساء جدول ضريبي يوزّع الجهد الجبائي على مختلف أصناف الشركات (كبرى، صغرى، متوسطة وناشئة) كلّ حسب إمكانيات مساهمته. إلى جانب المقترحات المتعلّقة ببذل جهود إضافيّة في الحدّ من التهرّب والغشّ الجبائيّين من

خلال توفير موارد مادّيّة وبشريّة أكبر لصالح إدارة الجباية9 والتصدّي إلى عمليّات التّلاعب بأسعار التّحويل10 التي تكلّف الميزانية خسائر فادحة.

إلى جانب ذلك، وجب المضيّ قدما في مسألة مراجعة الامتيازات الجبائيّة التي تثقل كاهل الميزانيّة دون جدوى تذكر. وقد أكّدت وزيرة الماليّة الحاليّة أنّ الحكومة ماضية في هذا الإجراء منذ نوفمبر 2022 وهو ما تمّ الإعلان عنه في التقرير حول مشروع ميزانيّة الدّولة لسنة 202411 إلا أننا لم نر إلى حدّ الآن أي تغيّر حاصل في هذا المجال. بل بالعكس فقد ورد في التقرير الملحق لقانون المالية لسنة 2024 والمتعلّق بالنفقات الجبايّة والامتيازات الماليّة بأنّ عدد النّفقات الجبائيّة التي تمّ إحصاؤها قد ارتفع بإحدى عشر نفقة مقارنة بسنة 2021 وبأنّ تكلفتها ارتفعت من 4795 مليون دينار سنة 2020 إلى 6360 مليون دينار سنة 2022.12

هذا الإجراء على بساطته لم تقم الحكومة الحالية بالمضيّ فيه رغم ما نسمعه من تكرار لفكرة تكريس العدالة الجبائيّة في الخطابات الرّسميّة وعلى رأسها رئيس الدولة وهو ما يجعلنا ككلّ مرّة نتساءل حول التناقضات بين الخطابات من جهة والممارسة السياسية من جهة أخرى.

2. تعويل كبير على الاقتراض الخارجي في تعبئة موارد الميزانيّة

يعتبر الاقتراض وسيلة من وسائل تحصيل الموارد للميزانيّة ويكون إما اقتراضا داخليّا أو خارجيّا. تشير الأرقام الواردة بقانون المالية إلى أنّ حجم الاقتراض لسنة 2024 يقدّر بـ 28188 م.د تتوزّع إلى 16445 م.د اقتراض خارجي و11743 م.د اقتراض داخلي ويبيّن الجدول التالي بأكثر تفاصيل موارد الاقتراض الخارجي.

المصدر: وزارة الماليّة، قانون الماليّة لسنة 2024

تعتبر هذه الأرقام كبيرة جدّا مقارنة بالسّنوات الماضية فقد شهدت موارد الاقتراض تطوّرا بـ 54% مقارنة بسنة 2022 مثلا. ولكن الإشكال لا يكمن في اللّجوء للاقتراض في حدّ ذاته لتمويل الميزانيّة، بل في التّداين المرتبط بسياسات تقشّفيّة تمليها المؤسسات المالية المانحة في إطار ما يعرف ببرامج “الإصلاح” أوالتي تتبناها الحكومات من تلقاء نفسها تحت غطاء الإملاءات.

على عكس قانون المالية لسنة 2023 الدي بني على فرضية وحيدة وهي إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي، تخلى قانون المالية للسنة الحالية عن هذه الفرضية تماما وعوضها بموارد اقتراض أخرى أهمّها الجزائر والعربية السّعوديّة و البنك الافريقي للتصدير و الاستيراد مقابل نسب فائدة عالية. إلى جانب ذلك ورد في قانون المالية موارد اقتراض ضخمة بحجم 10307 م.د تحت عنوان “قروض أخرى” أي لا نعلم مصدرها وهو ما نعتبره انتهاكا لمبدأ الشفافيّة13 المنصوص عليه بالفصل 4 من القانون الأساسي للميزانيّة و الذي يقتضي بأنّه : “يقدّر قانون المالية لكل سنة جملة موارد الدولة وتكاليفها، ويحدد التوازن المالي الناتج عنها وينصّ على طبيعتها وتوزيعها …”و كذلك الفصل 8 الذي ينصّ على أنّ مبدأ الشفافيّة يقتضي : “… توضيح دور مختلف هياكل الدولة وتوفير المعلومات حول ميزانية الدولة حسب الأساليب والطرق المتداولة وتوفير التقارير حول تنفيذ ميزانية الدولة والأداء ونشرها للعموم في الآجال.”

إن هذا العنوان وضعنا أمام فرضيتين: الأولى أن الحكومة ستعوّل على ممولين أجانب لم تذكرهم (ولم تذكر شروط الاقتراض لديهم) وقد تكون طريقة لترك الباب مفتوحا لعودة التفاوض مع صندوق النّقد الدّولي على قاعدة برنامج “إصلاحات” جديد. أما الفرضية الثانية فتتمثل في تمويله مباشرة من البنك المركزي وهو الخيار الذي التجأت إليه السلطة عبر المصادقة على القانون عدد 10 لسنة 2024 المؤرخ في 7 فيفري 2024.

نلاحظ مرّة أخرى مظاهر الالتباس والتناقض بين ما يرد على لسان رئيس الدولة من خطابات وبين ما يتمّ تطبيقه على أرض الواقع. فبالرّغم من تأكيد هذا الأخير في أكثر من مناسبة على رفضه لسياسات وتصنيفات المؤسسات المالية الدّولية وعلى رأسها الصّندوق وآخرها تصريحه الذي نشر على صفحة رئاسة الجمهورية إثر لقائه برئيس الحكومة حول موضوع مشاركته في منتدى دافوس في 19 جانفي 2024. إلاّ أنّه قام بتكليف الوفد الحكومي المتكوّن من رئيس الحكومة ووزيرة المالية وكاتب الدّولة لدى وزير الشؤون الخارجيّة والهجرة والتونسيين بالخارج بالمشاركة في المنتدى الاقتصادي العالمي “دافوس” الذي أقيم بسويسرا بين 16 و19 جانفي 2024 أين التقى رئيس الحكومة التونسية برئيسة صندوق النقد الدّولي إلى جانب مؤسسات أخرى للتباحث حول “سبل تمويل مسار التنمية في تونس” إلى جانب التطرّق إلى “مختلف العراقيل التي تواجهها تونس، لاسيما على مستوى المالية العمومية نتيجة الاضطرابات الجيوسياسية العالمية.” حسب ما ورد في الصّحافة التونسية نقلا عن وكالة تونس افريقيا للأنباء.14

إن مجرّد غياب فرضية الاقتراض من صندوق النّقد لا تعني أن السلطة انتصرت للسيادة الوطنية كما يكرر أنصارها، إذ لا يخفى علينا بأنّ جلّ المرافق العموميّة مرتهنة إلى تأثير المؤسسات الدّوليّة المانحة الأخرى، على غرار البنك العالمي والبنك الأوروبي للإعمار والتنمية وغيرها، في انتهاك واضح لسيادة الشّعب ولحقّه في تقرير مصيره.15

إلى جانب ارتباط التّداين بسياسات تقشّفيّة فإنّ الإشكال الآخر يكمن في الاقتراض الدّاخلي (أي الاقتراض من مؤسسات بنكيّة تجاريّة مقيمة بتونس) الذي بلغت قيمته في السّداسي الأوّل لسنة 2023 قرابة 1590 م.د أي أكثر من نصف قيمة ما تمّ اقتراضه على مدار كامل سنة 2022 (2504 م.د)16. وهو من بين “الحلول” التي لجأت لها الحكومة التونسية إثر انحسار الآفاق أمام إمكانيات الاقتراض بالعملة الأجنبيّة من السّوق الماليّة العالميّة. ومن بين مخاطر اللجوء لمثل هذه “التّقنيات”، خاصّة في ظلّ تدهور قيمة العملة التونسية أمام العملات الأجنبيّة، هو حصّة الدّين الدّاخلي بنسب فائدة متغيّرة التي ارتفعت إلى حدود 23% سنة 2022 بعد أن تمّ التّحكّم فيها وتنزيلها إلى الـ 20% سنة 2021.17

نفقات الميزانية: تقشّف خانق في الإنفاق العمومي و تدهور المرافق العموميّة

المصدر : وزارة المالية، قانون المالية لسنة 2024

تتوزع نفقات الميزانية على النّحو المبيّن في الرسم البياني أعلاه. وما يهمّنا في هذا القسم من الميزانيّة أساسا هي النّفقات المتعلّقة بالاستثمار. إذ لم تتجاوز هذه الأخيرة الـ 5274 م.د أي ما يعادل 6.8% من إجمالي نفقات الميزانية. ويعتبر هذا الرّقم مهمّا بالنسبة لنا لما يبيّنه من توجهات تتخذها الحكومة في تحديد سياساتها العمومية. أي بعبارة أخرى انتهاج خيارات اقتصاديّة تجعل من مستوى الاستثمار العمومي متدنيا جدا. وهي خيارات لا تشذّ عن الخيارات العامّة لقوانين الماليّة السابقة. إذ أنّ عنوان الاستثمار في قانون المالية لسنة 2023 كان مقدّرا بـ4692 م.د مقابل 3567 م.د سنة 2022 و 4506 م.د سنة 2021. فإذا ما أخذنا بعين الاعتبار تطوّر العملة ونسب التّضخم السّنويّة فإن نفقات الاستثمار تعدّ تقريبا هي نفسها في السنوات الأخيرة. ويترجم هذا الخيار بوضوح مفهوم سياسات التّقشّف أي التّقليص في نسب الاستثمار العمومي.

إلى جانب ذلك تعدّ النفقات الموجّهة لخدمة الدّين العمومي التي تقدّر بـ 24701 م.د سنة 202418 (ارتفاع ب 18.7% مقارنة بسنة 2023) تكريسا حرفيا لسياسات التّقشّف التي تمليها المؤسّسات الدّوليّة المانحة. إذ تأخذ حيّزا هاما من ميزانيّة الدّولة في حين كان من الأجدر استعمال تلك الأموال في إعادة تنشيط الاقتصاد ومحاولة الخروج من الأزمة الاقتصاديّة التي تعيشها البلاد و ذلك من خلال الاستثمار العمومي.

تجدر الإشارة في هذا الصّدد إلى القانون عدد 10 لسنة 2024 مؤرخ في 7 فيفري 2024 يتعلق بالترخيص للبنك المركزي التونسي في منح تسهيلات لفائدة الخزينة العامّة للبلاد التونسيّة. و الذي تضمّن فصلا وحيدا ينصّ على أنّه: ” استثناء لأحكام الفصل 25 من القانون عدد 35 لسنة 2016 المؤرخ في 25 أفريل 2016 والمتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي، وبغرض تمويل جزء من عجز ميزانية الدولة لسنة 2024، يرخّص للبنك المركزي التونسي بصفة استثنائية في منح تسهيلات لفائدة الخزينة العامّة للبلاد التونسيّة في حدود مبلغ صافٍ يقدّر بسبعة آلاف (7.000) مليون دينار تسدد على مدة عشر سنوات منها ثلاث سنوات إمهال ودون توظيف فوائد …”. و يمثّل ذلك استثناء لمبدأ استقلاليّة البنك المركزي المكرّس بالقانون عدد 35 لسنة 2016 المتعلّق بالنظام الأساسي للبنك المركزي. والذي جاء تلبية لإملاءات صندوق النّقد الدّولي حينها.

نجدّد تأكيدنا في هذا الصّدد على غياب منطق الشّفافيّة في أداء مؤسسات الدّولة. إذ أنّ جميع مراحل إصدار هذا القانون ونشره بالرّائد الرّسمي لم تتجاوز مدّة الـ 12 يوما. في حين كان من المفترض توسيع النّقاش حول هذه الآلية لتمويل عجز الميزانيّة على نطاق واسع من مختلف الفاعلين في الميدان الاقتصادي من “خبراء” ومنظمات وطنية ومجتمع مدني تطبيقا للمبادئ المنصوص عليها بالقانون الأساسي للميزانيّة.

ولئن كان هذا الأخير أقرب إلى غرفة تسجيل منه إلى برلمان حقيقي يمارس سلطته الرّقابيّة على الحكومة وعلى مختلف التّشريعات في إطار التّوازن بين السّلط فإنّ السّلطة التّنفيذيّة زادت الطّين بلّة وذلك من خلال تغييب المعلومة الدّقيقة و التّقارير المصاحبة لمشروع قانون الماليّة التي ترد فيها تفاصيل أدقّ حول الميزانيّة والتي لم تنشر إلاّ بعد تقديم منظمة البوصلة لمطلب نفاذ إلى المعلومة بتاريخ 22 ديسمبر تطالب فيه بنشر هذه التّقارير.19

بالرّجوع إلى حجم أصل الدّيْن الخارجي الذي سيُسدّد على مدار هذه السّنة، نلاحظ أنّه يقارب 7000 مليون دينار، وهو نفس مبلغ القرض. وبالتّالي يمكن الاستنتاج أنّ المبلغ الجملي الذي ستَسحبه الحكومة موجّه برمّته لخلاص الدّيون الخارجيّة. إلاّ أنّ السّلطة تتحاشى الحديث صراحة عن مواصلة نهج المديونية، لأنّه يعكس تناقضها وعجزها عن القطع فعليا مع السياسات السابقة20.

إن ما نعيبه عن هذا القانون لا يندرج في خانة ما يقدمه أنصار النظرية النقدية الليبرالية المدافعة عن استقلالية البنك المركزي وهو أن التمويل المباشر من البنك المركزي يؤدي حتما للتضخم خاصّة وأنه في موضوع الحال لا تؤدي هذه العملية إلى تضخم ناتج عن ازدياد في حجم الكتلة النقدية، بل إلى تراجع في مخزون العملة الصعبة21. يمكن للبنك المركزي أن يموّل برنامج نفقات حكومية في إطار برنامج تنموي وطني دون أن يؤدي ذلك ضرورة للتضخم إلاّ أنّ اعتماد هذه الآلية من طرف السلطة في هذا السياق جاءت كحلّ سهل التجأت إليه بعد فشل مشاريعها التي كانت تنتظر أن تعبّئ منها الموارد وهي “الصلح الجزائي” واسترجاع الأموال المنهوبة. تجدر الإشارة إلى أن هذا القانون تزامن مع تنقيح مرسوم الصلح الجزائي الذي مازال يصرّ الرئيس قيس سعيد أنه السبيل لتعبئة موارد الدولة رغم فشله المتواصل والذي أرجعه تارة إلى تخاذل أعضاء اللجنة وتارة إلى القضاء أو المسؤولين الذين “يتعللون بالنصوص القانونية”.

ما يمكن أن نعيبه على الحكومة في هذا الصّدد أيضا هو افتقارها للتّخطيط المسبق على مستوى الموازنات العامّة وارتكازها على فرضيّات اقتراض خارجي غير ممكنة التّطبيق على غرار الاتفاق مع الصّندوق وغيرها من القروض المضمّنة بقانون المالية لسنة 2024 والتي لم تتوصّل الحكومة إلى حدّ هذه اللّحظة إلى اتّفاق حولها، ما يجعلها تلتجأ على وجه العجل لمثل هذه الآليات، وهو ما يمسّ من مصداقيّة الدّولة.

أمّا بالنسبة للانتداب في الوظيفة العمومية فإنّ الحكومة وضعت لنفسها إجراءات عاجلة للتحكّم في كتلة الأجور تتمحور أساسا حول “ترشيد” الزيادات في الأجور و “التحكم” في الانتدابات وحصرها في “القطاعات ذات الأولوية” إلى جانب الحرص على تطبيق برامج الإحالة على التقاعد المبكّر. ممّا يجعل تطوّر نسبة نفقات التأجير من ميزانية الدّولة ينحصر في نسبة 1% فقط بين سنتي 2023 و2024 في حين يقدّر المعدّل السنوي لنسبة التضخّم في سنة 2023 بـ 9%. وتبعا لهذه الإجراءات سيواصل عدد الموظفين و الموظفات لكل 10000 ساكن/ة انحداره إلى 522 في سنة 2024، بينما يتجاوز هذا الرقم الـ 700 في أعتى البلدان الرأسمالية.22

أمّا بخصوص مسألة رفع الدّعم من عدمه التي أسالت الكثير من الحبر، فبين ما يعلنه رئيس الجمهورية في مختلف مداخلاته حول الموضوع بأنّه لا يمكن رفع الدّعم وبالأخصّ في ظلّ الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تمرّ بها البلاد، و بين ما تقوم به حكومته من إجراءات هنالك مرّة أخرى تناقضات وجب الوقوف عليها.

ما يشير إليه قانون المالية لسنة 2024 هو أنّ تقديرات النّفقات الموجّهة للدّعم بعنوان سنة 2024 تقدّر بـ 11337 م.د وهو ما يمثّل 19% من جملة نفقات ميزانيّة الدّولة بعد أن تمّ النّزول بها إلى مستوى 8832 م.د بقانون الماليّة لسنة 2023. ولكن حسب التقرير المرفق بقانون الماليّة لسنة 2024، فإنّ نسبة إنجاز ميزانيّة 2023 إلى حدود شهر أوت الفارط فيما يخصّ نفقات الدّعم لم تتجاوز الـ 50% أي ما يعادل 4139 م.د وهو ما يفسّر غياب الكمّيات الكافية للتزويد بالموادّ الأساسيّة والطّوابير الطّويلة أمام المخابز مثلا. إذ أنّ نسبة الإنجاز فيما يتعلّق بالنّفقات الموجّهة إلى الموادّ الأساسيّة لم تتجاوز الـ 19%.23 وهذا عائد في رأينا أساسا إلى الضّغط المسلّط من قبل الحكومة على النّفقات الموجّهة في الأصل لاستيراد الموادّ الأساسيّة بالعملة الصّعبة وتوجيهها لسداد استحقاقات البلاد من الدّيون في ظلّ عدم التوصّل إلى اتّفاق مع صندوق النّقد الدّولي أساسا و بقيّة المانحين الدّوليّين و في ظلّ الظّروف الدولية (جائحة الكوفيد ثم الحرب الروسية الأكرانية) التي أدت إلى ارتفاع في الأسعار العالمية لهذه الموادّ.

إلى جانب ذلك فإنّ الحكومة لجأت إلى ما تسمّيه “أليات بديلة لتمويل نفقات الدّعم” وذلك عبر توسيع مجال تطبيق أتاوة الدّعم ومراجعة نسبها ومن بين هذه الآليات نجد ترفيع نسبة الاتاوة على بعض المؤسسات السياحية الى 3 بالمائة و 5% بالنسبة للملاهي و النّوادي اللّيليّة إلى جانب التّرفيع في معلوم الإقامة بالنسبة للسياح الأجانب وإحداث معلوم على مشتقات الحليب. ويراد من خلال هذه الإجراءات تدعيم موارد الدّولة من أجل إعادة توزيعها من خلال نفقات الدّعم. وهي نظريا فكرة مقبولة إلى حدّ ما للحدّ من ظاهرة تمتّع الفئات الميسورة من الدّعم على حساب مستحقّيه الحقيقيّين، إلاّ أنّ تطبيقها على أرض الواقع يبدو صعبا أمام مشاكل الاستخلاص والرقابة التي تعاني منها إدارة الجباية.

لطالما كان لهذه التوجّهات الاقتصادية ذات النظرة “المحاسبتية” الجافّة نتيجة واحدة وهي تدهور جودة المرافق العمومية الحياتيّة من نقل وتعليم وصحّة وبالتالي ضرب المقدرة الشرائيّة للمواطنين والمواطنات. إنّ هذه الأرقام ستترجم فيما بعد إلى واقع صعب يسلّط على الشّعب التونسي في حياته اليوميّة من مرافق عموميّة مهترئة وخدمات غير ذات جدوى أو منعدمة في بعض الأحيان، في ظلّ تواصل فشل السلطة في وضع سياسات بديلة لتغيير هذا الواقع.

تطور ميزانيات الوزارات ذات البعد الاجتماعي

تطرّق رئيس الجمهوريّة في عدّة مناسبات إلى ضرورة عودة الدّور الاجتماعي للدّولة وهو شعار يندرج في إطار سرديّة تنبني على فكرة الزّيادة في معدّلات الإنفاق على المرافق العموميّة كالصّحة والتعليم والنّقل وغيرها، وذلك للتّقليل من حدّة الفوارق الاجتماعيّة وتمكين الفئات والشّرائح الاجتماعيّة المفقّرة من الولوج إلى خدمات عموميّة تحفظ كرامتهم.ن.

يقتضي على حامل هذا الشّعار أن يوجّه السياسات العامّة للبلاد في هذا الاتّجاه وألاّ يقتصر على ترديده في مختلف المناسبات دون تنزيله على أرض الواقع. لذلك اخترنا تحليل الميزانيّات المخصّصة لمهام الشّؤون الاجتماعيّة، الصحّة، التّعليم، النّقل، الإسكان والتّجهيز، وكذلك الفلاحة والصّيد البحري (بالأحمر) بين سنتي 2021 و2024. وذلك لاستبيان ما إذا كان هنالك ترجمة حقيقيّة للدّور الاجتماعي للدّولة في الميزانيّة.

إذا ما نظرنا إلى حجم الميزانيّات المبيّنة في الصّورة أعلاه سنجد جلّها في ارتفاع نسبي تقريبا. وهو ما يبدو لنا، في الوهلة الأولى، أمرا جيّدا. ولكنّنا إذا ما احتسبنا نسبة التّطوّر-أي الفارق بين الميزانية والميزانيّة التي تسبقها بسنة (الخطوط الزّرقاء)- ثمّ طرحنا الزيادة الحاصلة في حجم الميزانيّات من جرّاء التّضخّم فإنّ نسبة التطوّر الفعليّة (الخطوط البنفسجيّة) تصبح أقلّ وفي أغلب الأحيان تصبح سلبيّة. ممّا يعني أنّ الانفاق العمومي في هذا المجال في انحدار متواصل، وفي أحسن الأحوال فهو يراوح مكانه.

فقد ارتفعت، على سبيل المثال، ميزانيّة الشؤون الاجتماعيّة من 2 605 300 000 دينار سنة 2023 إلى 2 852 000 000 دينار سنة 2024. أي أنّ نسبة التّطوّر تعادل 9.5% تقريبا. أمّا إذا أخذنا بعين الاعتبار الأثر الحاصل من جرّاء التّضخّم وطرحناه من المعادلة فإنّ نسبة التطوّر باحتساب التّضخّم تصبح في حدود الـ 0.3%- وهو ما يعني أنّ حجم الميزانيّة قد تقلّص فعليّا.

زيادة على ما سبق فإنّه من الواضح أنّ الميزانيّة الموجّهة للاستثمار في مختلف المجالات المذكورة سابقا ضئيلة جدّا ولا توحي بفكرة إيلاء إعادة تنشيط الاقتصاد التونسي من خلال الاستثمار العمومي الأولويّة.

فقد بلغت ميزانيّة الصّحّة 3.9 مليار دينار في سنة 2024، كأقصى حدّ لها منذ جائحة كوفيد 19. وهو ما يتعارض مع ما تعهّدت به الدّولة التونسيّة بمقتضى اتفاقيّة ابوجا، أي تخصيص 15% كحدّ أدنى لمهمّة الصّحة من إجمالي ميزانيّة الدّولة. في حين لا تتجاوز نسبة الميزانيّة المخصّصة للصحّة الـ 6% من إجمالي ميزانيّة الدّولة. ومن جملة هذا المبلغ تمّ الاكتفاء فقط بـ 582 مليون دينار كمبلغ موجّه للاستثمار في هذا المجال.

نفس التّشخيص يمكن أن ينسحب على باقي الوزارات التي لها علاقة مباشرة بتجسيم الدّور الاجتماعي للدّولة ومن بينها وزارة الفلاحة. ففي ظلّ تنامي المخاطر المتعلّقة بالتّغيّرات المناخيّة من جفاف وسيول وأمطار غير موسميّة وغيرها، وفي ظلّ استفحال الأزمة التي يعيشها الفلاح أو البحّار “الصّغير” أمام غطرسة كبار المستثمرين والمورّدين من غلاء وسائل الإنتاج أو انعدامها في بعض الأحيان، تكتفي الدّولة التونسيّة بميزانيّة مخصّصة للاستثمار في مهمّة الفلاحة والموارد المائيّة والصّيد البحري في حدود الـ 700 مليون دينار لسنة 2024.

نجد في التّقرير حول مشروع ميزانيّة الدّولة لسنة 2024، في الباب المخصّص للفلاحة والموارد المائيّة والصّيد البحري، أنّ الحكومة التونسيّة خصّصت مبلغ 306.4 مليون دينار كنفقات للتّدخّلات ذات الصّبغة التّنموية. ومن بين أهمّ هذه النّفقات، على سبيل الذّكر، تمّ تخصيص 30 مليون دينار فقط لدعم صندوق تعويض الأضرار الفلاحية الناجمة عن الجوائح الطبيعية في زمن الجوائح بامتياز، لا سيما الجائحة المتمثلة في انتشار الحشرة القرمزية في كامل أنحاء البلاد والتي اكتفت الحكومة بـ 34.9 مليون دينار ككلفة لمجابهتها.

أمّا فيما يخصّ مهمّة التّجهيز والإسكان فهي لا تشذّ عن القاعدة كذلك. إذ أنّه على الرّغم من ارتفاع حجم الميزانيّة المخصّصة لها، فإنّ نسبة التطوّر الفعلي للميزانيّة سلبيّة بين سنتي 2023 و2024 (-5.2%).

ولئن تبدو النّسبة المخصّصة للاستثمار في هذا المجال عالية مقارنة بميزانيّات الوزارات الأخرى (1500 مليون دينار مخصّصة للاستثمار من جملة 1970 مليون دينار كميزانيّة جمليّة في سنة 2024). إلاّ أنّ هذه الوزارة تعنى مباشرة بأشغال التّهيئة والتوسيع والإنشاء في كلّ ما يتعلّق بالطّرقات والجسور والموانئ والأحياء السّكنيّة وغيرها، أي المجالات التي تتطلّب توفير مبالغ ضخمة نظرا لغلاء أسعار الموادّ الأساسيّة والأحجام الضّخمة لهذه المشاريع. وإلى جانب ذلك فإنّ جلّ المشاريع المزمع القيام بها والمعلن عنها في التقرير حول مشروع ميزانيّة الدّولة لسنة 2024 تتمثّل في مواصلة لمشاريع وبرامج عالقة منذ سنوات لغياب التمويل والاستثمار الكافي لتنفيذها.

ولئن كان الرّئيس يرفع لواء الدّولة الاجتماعيّة الرّاعية عاليا إلاّ أنّ قانون ماليّته يترجم حرفيّا الخيارات التّقشّفيّة التي تمليها علينا السياسات النيوليبراليّة وأذرعها من مؤسّسات دوليّة مانحة وعلى رأسها صندوق النّقد الدّولي حتّى في حال عدم الاتّفاق معه على برنامج “إصلاح”. وهو ما يؤكّد لنا كذلك أنّ الخطاب الذي يروجه رئيس الجمهورية وتأكيده عن الدّور الاجتماعي للدّولة لا أساس له من الصّحة. بل بالعكس فما يمكن استنتاجه من خلال تحليل هذه الأرقام هو أنّ هنالك مواصلة في نهج التّقشّف الخانق للاستثمار العمومي ومن ورائه الاتثمار الخاصّ وإعادة تحريك الدّورة الاقتصادية للبلاد

——————————————————————————————–

  1. مهدي العش-المفكرة القانونية (العدد 26-جوان 2023): سعيّد وصندوق النقد الدولي: في حدود استراتيجية المواربة ↩︎
  2. بعد اتفاق الخبراء وانتظار المجلس التنفيذي للبنك رسالة النوايا من الدولة التونسية للمصادقة على الاتفاق النهائي والتي يمكن أن يشترط فيها إمضاء معينا ↩︎
  3. وزارة الماليّة، تقرير حول مشروع ميزانية الدّولة لسنة 2024، أكتوبر 2023، ص 57-58. ↩︎
  4. منظمة البوصلة (2022): العدالة الجبائيّة في تونس: خيار أجهضته سياسات التداين، ص 3. ↩︎
  5. منظمة البوصلة (2019): مشروع قانون المالية 2019 تحت مجهر الإنصاف الجبائي، ص 12. ↩︎
  6. منظمة البوصلة (2022)، تمّ ذكره ص8. ↩︎
  7. منظمة البوصلة (2019)، تم ذكره ص 13-17. ↩︎
  8. منظمة البوصلة (2022)، تمّ ذكره ص3 ↩︎
  9. منظمة البوصلة (2020): إدارة الجباية في تونس: أداة معطَّلة، 2020، ص26. ↩︎
  10. قيس عطيّة-المفكّرة القانونيّة (2021): أسعار التّحويل أو عندما تشجّع الدّولة تهرّب حيتان المال من الجباية ↩︎
  11. وزارة الماليّة، تقرير حول مشروع ميزانية الدّولة لسنة 2024، أكتوبر 2023، ص 48. ↩︎
  12. وزارة الماليّة، التقرير حول النفقات الجبايّة و الامتيازات الماليّة، مرفق بقانون المالية لسنة 2024، ص 28. ↩︎
  13. 13 البوصلة، قانون الماليّة 2023: أيّ مشروعيّة لقانون اللّحظات الأخيرة ؟، 2023، قانون الماليّة 2023: أيّ مشروعيّة لقانون اللّحظات الأخيرة؟ — البوصلة(albawsala.com) ↩︎
  14. رئيس الحكومة يلتقي مديرة صندوق النقد وممثلي بعض المؤسسات المالية الدولية(tuniscope.com) ↩︎
  15. وليد بسباس، قانون مالية 2024: ميزانيات العجز الدّائم، انحياز، 2023. ↩︎
  16. وزارة الماليّة، التّقرير حول الدّين العمومي، مرفق بقانون المالية لسنة 2024، ص 44. ↩︎
  17. نفس المصدر، ص 46 ↩︎
  18. تقرير حول مشروع ميزانية الدولة لسنة 2024، ص 163. ↩︎
  19. أنظر صفحة منظمة البوصلة: منشور بتاريخ 22 ديسمبر 2023 ↩︎
  20. سمية المعمري، تمّ ذكره ↩︎
  21. سمية المعمري، تمّ ذكره ↩︎
  22. وليد بسباس، قانون مالية 2024: ميزانيات العجز الدّائم، انحياز، 2023. ↩︎
  23. تقرير حول مشروع ميزانية الدولة لسنة 2024، ص 21. ↩︎
]]>
https://www.albawsala.com/en/publications/20246607/feed 0
Energy Transition and “Green” Investments in Tunisia: Attractive Headlines for Continuous Dependency https://www.albawsala.com/en/publications/articles/20246628 https://www.albawsala.com/en/publications/articles/20246628#respond Tue, 23 Jul 2024 09:53:36 +0000 https://www.albawsala.com/?p=6628 Introduction

Energy transition has been a key element in Tunisia’s official discourse for years, aligning with the global context that drives investment in renewable energies and reduces dependence on fossil energies. In this discourse, renewable energies, particularly photovoltaic energy and “green” hydrogen, are presented as the ideal solution that will enable the country to overcome its energy deficit and attract foreign investments, thereby contributing to addressing the economic crisis. 

However, these headlines, promoted by the Tunisian state and the “supporting” international institutions in this matter, obscure the fact that these investments further deepen regional disparities and perpetuate the same exploitative mechanisms of the extractive model. These investments come at the expense of citizens in the interior regions, generating profits for investors without delivering genuine developmental or environmental benefits to the country. 

An aspect of the injustice of these investments is evident in land exploitation for the construction of solar or wind power plants. In this context, President Kais Saied used the authority of decrees to remove obstacles to the exploitation of public and agricultural lands for these projects. As for the communal and private lands, particularly in the south, where land ownership remains a contentious issue between the authorities and local residents the government has accelerated its efforts by using coercive measures to impose investors’ control over these lands, as is currently happening in the villages of Sagdoud, Chenini, and Douiret. 

This approach is not isolated from the European countries’ pursuit to diversify their energy supply sources to achieve their own goals and indicators at the expense of the environmental and economic interests of the Global South, through non-transparent agreements covered by attractive slogans such as energy transition and economic cooperation. 

 This paper aims to shed light on the challenges related to these projects and to highlight the issues that need to be taken into consideration to ensure that the Tunisia’s energy transition is fair and driven by a national desire to achieve energy self-sufficiency and to guarantee citizens’ right to access energy.  

Energetic Transition: “A Misleading Paradigm” 

The discourse on “transition” in general represents one of the elements of the internationally dominant global discourse, especially when related to concerning the Global South. “Transition” is often claimed to be an inevitable path to progress and prosperity, taking various forms that are promoted in the literature of international institutions, such as digital or energy transition.   

These seemingly attractive or even self-evident terms obscure many critical aspects of these transitions. How are they being carried out, and for whose benefit? Does every transition necessarily lead to a good model? What kind of transition is being promoted by international institutions and their financial and technical arms?  

European-centric socio-technical approaches1 dominate studies on “transition”, where it is viewed in this context as “significant technological shifts in the operation of social functions such as transport, communication, housing, and food”2 or as “deep structural changes in systems—such as energy—that involve complex and long-term restructuring of technology, policies, infrastructure, scientific knowledge, and cultural and social practices for sustainable purposes3.” 

However, despite some modifications, his theory overlooks important dimensions related to the political economy of transition, such as, power dynamics, interests, and historical and social dimensions. The differences in institutional and social contexts of each country lead to the adoption of different energy transition pathways, influenced by power dynamics, international influences, and the prioritization of political choices—whether to promote renewable energy or focus on inclusive development.   

In the context of energy transition, other geographical studies indicate that energy transition embodies pathways with varying spatial and social impacts.  Reshaping economic and social activities based on these pathways leads leads to different outcomes depending on social groups and areas,4 which do not benefit equally from the extraction, generation, financing, distribution and consumption of energy5.   

Thus, two competing visions/paths for energy transition nature can be distinguished: 

  • A market-based and extractive-oriented vision, encouraged by international institutions, leads to a liberal model based on privatization. This vision neglects many structural dimensions of transitions, such as power relations and interests. In fact, it justifies the adoption of the neoliberal model of transition, which subordinates all sectors, including vital ones, to the logic of the market and profit. International institutions rely on the use of loans, development financing, and alliances with local forces that benefit financially and politically from this transition, to legitimize and impose this model on Global South countries. Its impact also intersects with the interests of many additional stakeholders: global capital, transnational corporations active in the energy sector, international “development” banks, and local political elites6
  • A comprehensive vision for the energy transition that takes into consideration various social, environmental, and gender-related factors (such as democracy, transparency, colonial legacy, energy and economic dependency, etc.), as well as the interests of different stakeholders, particularly indigenous people, farmers, and women. This proposal is embodied in the principle of a just energy transition, whose characteristics were clearly outlined at the meeting of environmental and labor movements in Amsterdam in 2019, including gender, class, racial, and democratic dimensions7

Our vision of a just energy transition, and our consideration of its political economy dimensions in the Global South, compels us to view it in the Tunisian context as a component of a global system that perpetuates energy dependency. In this system, international institutions influence Global South countries to adopt an extractive, neoliberal energy model that incorporates renewable energies as one of energy production sources, without bringing any real change in the nature of the extractive system and its disastrous effects on land and people’s lives.  

Moreover, our perspective on a just energy transition does not align with the lexicon adopted by neoliberal institutions that appropriated this term to serve their own narrative after embracing it in the preamble of Paris Agreement under the pressure of social, environmental, and labor movements. The use of this term often remains at the level of slogans, merely to cover up the usual policies8, a practice these institutions have consistently applied in all the other areas as well, such as debt, austerity, and subsidies.    

Strategies for Energy Transition in Tunisia: What Transition and for Whom?  

The energy transition in its core definition —namely, the shift towards energy sources with lower carbon emissions (as defined by the International Renewable Energy Agency, IRENA)—represents a significant challenge for Tunisia amidst social and political changes and increasing energy demand. Currently renewable energies sources, which are proposed as the primary alternative in this energy transition, contribute by only 3% of Tunisia’s energy mix, a very insignificant percentage far from the national goal of reaching 30% by 2030.  

The main challenges facing the current energy system in Tunisia include securing energy demands, governing the subsidy system, and the impact of reliance on fuel and gas imports on social aspects and quality of life. However, facing these challenges should be connected to all aspects of a just energy transition and should be particularly directed toward meeting the needs of the Tunisian market, rather than adopting a liberal model that could lead to the privatization of energy sector, environmental harm, and depletion of the country’s natural and water resources.  

Historically, Tunisia transitioned from being an energy exporter to a net energy importer since the beginning of the third millennium, due to the increase in demand and the decline of local energy production9. Although Tunisia was an exporter of oil and gas until the 90s, it became an importing country over the past decade. The energy balance (measured by the energy independence ratio) has shifted from a surplus (124% in 1990) to a deficit since 2001 reaching 80% in 201210 and 48% in 202311

Tunisia’s national energy policy did not undergo a transformation until 2009 only saw a significant shift in 2009 with the launch of the Tunisian Solar Plan, which coincided with and was linked to the Mediterranean Solar Plan launched by the European Union in the same year, in cooperation with the countries of the southern and eastern Mediterranean, as part of the Union for the Mediterranean, to achieve its goals in the field of renewable energy. 

Since the launch of the Mediterranean Solar Plan, the National Agency for Energy Management (ANME) has adopted a more “proactive” approach in providing incentives to enhance energy governance and make significant progress in renewable energy and to reduce dependence on conventional energy sources and limit greenhouse gas emissions, or so it is claimed in in every successive national strategy since the launch of the Mediterranean Solar Plan. When it comes to global greenhouse gas emissions, Tunisia’s contribution is a mere 0.07%, which raises questions about the central importance placed on this issue in energy projects undertaken in Tunisia in collaboration with the European Union. Especially considering that this focus has required the mobilization of substantial resources, estimated at approximately 18 billion USD12, to fund investment needs and capacity-building programs. 

In this context, the French government launched an initiative in November 2009 to explore the feasibility of transmitting direct current over long distances between solar and wind energy production centers and consumption points across the Mediterranean basin, as part of the MEDGRID project. This initiative aims to establish an integrated network of energy transmission pipelines that connect the northern and southern shores. The MEDGRID project is focused on studying and developing an advanced offshore electrical grid that links North Africa with Europe, thereby facilitating the exchange of renewable energy between the two regions and optimizing the use of solar and wind energy resources in the southern Mediterranean.   

 It becomes evident that what seems like Tunisian energy policies is a direct outcome of European impositions. Northern countries tailor these policies to align with their commitments and aspirations, often in response to pressures such as those arising from the Russian-Ukrainian war and their dependence on Russian gas.  

The European Union, on the one hand, is trying to reduce its dependence on traditional energy sources and achieve its environmental goals, while on the other hand, seeks to secure alternative and sustainable energy sources to address geopolitical fluctuations.  

Therefore, the Tunisia’s legislative framework development, related to renewable energies is often shaped by the influence of European partners and their efforts to persuade authorities to adopt the reforms they impose.  

The influence on the legislative framework is a key element of the “modus operandi” that underpins the strategies of Northern countries to exploit the resources of the Global South. European lobbying takes many forms to influence the legal and institutional framework, such as facilitating policy dialogues between governmental and private actors or using the guise of technical assistance to develop various national strategies of southern countries. This is evident in the Tunisian case, where the German Technical Cooperation Agency funded most of the studies related to the energy sector.  

Among the objectives outlined in the European Bank for Reconstruction and Development (EBRD) strategy for Tunisia 2018-2023 are: “Supporting the competitiveness of Tunisian businesses by opening markets” and “Supporting Tunisia’s transition to a green economy”.  

Specific goals were also targeted for achievement during the 2017-2022 period under Priority 3, including: “Developing a renewable energy program to support the private sector through consultation with the Ministry of Energy… and advocating for the banking model of PPAs (Power Purchase Agreements) with all stakeholders: the Prime Minister’s Office, the Ministry of Energy, the National Electricity and Gas Company, trade unions, and banks.” The document also emphasizes on “continuing to advocate for reforms with international financial institutions to strengthen private sector participation in key sectors (such as energy and infrastructure)” and affirms “agreeing with authorities on improving energy efficiency, including legal support for renewable energy.” 

Tunisia is no exception to this pattern, as planning for renewable energy projects and their accompanying legal framework has been directly linked to the influence of European partners, especially Germany. As the fourth-largest industrial power globally, Germany is committed to reducing its greenhouse gas emissions and is a major player in the renewable energy sector, driving its pursuit of markets for its technology and expertise. Thus, it is noteworthy that the logo of the German Technical Cooperation Agency is prominently featured on almost all projects and studies related to the environment in Tunisia. Since the beginning of the Tunisian-German energy partnership in 2012, Germany has provided technical assistance to develop the energy sector in Tunisia in line with its strategic interests. Observers13 point out that the impact of this “support” is echoed in some measures of the 2015 law.   

In September 2023, the Tunisian Ministry of Industry, Mines and Energy in collaboration with the German Agency for International Cooperation (GIZ), launched the National Strategy for the Development of Green Hydrogen and its Derivatives in Tunisia, with the goal of exporting more than 6 million tons of green hydrogen to Europe by 2050. Despite the widespread acclaim for this project, several negative aspects have not received sufficient discussion (and we will discuss explore them in the second part of this paper), as meeting the needs of the European Union and complying with its requirements may entail high environmental and social costs due to the consequences of these projects and their accompanying “reforms” on citizens’ rights to this vital facility14.     

These insights shed light on the significant disparity in the speed of implementing government “commitments” between the energy sector (as a component) and the other components of the ecological transition strategy, as well as the National Strategy for Low-Emission and Climate-Resilient Development by 2050. While key sectors such as agriculture, health, and water (remaining components of these strategies) have largely stalled, the energy sector has rapidly accelerated, driven primarily by European lobbying efforts. 

Figure 1: Evolution of the Legal Framework and Renewable Energy Projects – Al Bawsala

Projects with a primary focus on export 

The TuNur solar project is one of the most prominent projects programmed in cooperation with the European side. This joint venture involves Nur Energy, a british-based solar energy development company, along with Maltese and Tunisian investors from the oil and gas sector, with the primary goal to exploit solar energy from the Tunisian desert to produce electricity.  

The project is primarily located in Qibili and aims to generate concentrated solar power (CSP) and export it to Europe via undersea cables. According to the Mediterranean Solar Plan, the project aims to deliver 4.5 gigawatt-hours of electricity, with the primary export target being Italy, followed by France and Malta. 

This project aligns with Europe’s broader strategy to enhance electrical interconnections with North Africa as an alternative to dependence on Russian gas.   

This strategic direction was embodied in the revival of the Desertec program, a lobbying group founded in 2003 by the Trans-Mediterranean Renewable Energy Cooperation (TREC), an initiative stemming from the Club of Rome. The Desertec program’s mission is to develop electricity production from renewable energy sources in desert regions.15 As part of this initiative, three key consortia were established: the Desertec Industrial Initiative, a coalition of German industrial companies in the energy sector based in Munich, alongside MedGrid and MED-TSO.16

The Desertec project was abandoned in 2014 due to several factors, the most significant of which was Europe’s shift toward providing its needs of clean energy internally, due to the declining cost of solar panels at the time. Althoug, the announced reasons for abandoning the Desertec project in Tunisia included its high costs, the incompatibility of the national legal framework in Tunisia with the European vision for the project—especially regarding private sector involvement and energy subsidies—and the “lack of investor confidence”17.   

The most prominent reason, however, was the disagreement between Desertec and Desertec Industrial Initiative.18 Despite this setback, the core philosophy of exploiting the Sahara Desert to fulfill European energy needs persisted and even regained momentum after the Russian war, reflecting Europe’s concerns about its energy dependency on Russia.  

Subsequently, Tunisia significantly amended its energy policy measures through Law 12/2015, issued on May 11, 2015, which provides a legal framework for generating electricity from renewable energy sources. This law aims to define the legal regime governing the implementation of projects for producing electricity from renewable sources for self-consumption, meeting local demand, and exporting. It promotes private sector investment in renewable electricity production. This law was accompanied by a regulatory decree issued on August 24, 2016, which outlines conditions and procedures for executing projects that produce and sell electricity from renewable sources, including terms for purchasing excess power from independent producers. 

The government revised numerous texts to encourage investment in renewable energies. I Besides projects for self-consumption (with the possibility of selling the surplus to the national electricity and gas company and transporting it via its grid), the 2019 law on Improving the Investment Climate introduced the ability to develop such projects on state-owned lands through licensing and on agricultural lands by entirely waiving the requirement to change their designated agricultural use.19

Tunisian Electricity and Gas Company: The cornerstone of the energy privatization process 

Removal of direct and indirect subsidies of electricity  

The Tunisian Electricity and Gas Company (STEG) is a pillar of the public sector, boasting an electrification rate of 98.8%, among the highest in Africa and comparable nations. This achievement is supported by the state through both direct and indirect subsidies, ensuring citizens have access to this crucial service without the burden of global energy price fluctuations. 

Breaking the “dominance” of public companies over strategic sectors and eliminating direct subsidies on basic commodities and energy prices have long been among the most important “reforms” demanded by international financial institutions. 

Under the influence of the 2013 agreement with the IMF, Tunisia embarked on reforms that included an audit, which resulted in the removal of preferential gas pricing from the Tunisian Petroleum Activities Corporation20. This compelled STEG to source from global markets, necessitating foreign currency loans from banks and subsequently increasing its debt levels.21

Despite the president’s sovereignty-focused rhetoric, the government persists with its reform agenda, focusing on the “gradual adjustment of electricity and gas prices to reflect actual costs” (essentially, the elimination of direct electricity subsidies) with the goal of phasing out direct electricity subsidies by 2026. This objective is outlined in both the 2023 Medium-Term Budget Framework document and the circular regarding the preparation of the 2025 state budget. 

Renewable Energy: STEG Infrastructure in favor of Foreign Investors  

Although STEG’s financial crisis is primarily a result of implementing reforms from international financial institutions, privatization continues to be promoted as a solution for energy provision, amid the company’s financial issues, even within the renewable energy sector. Law 12 of 2015 marks another step forward in this trajectory. 

Within this liberal framework, STEG’s role in the renewable energy sector is confined to electricity transmission, purchasing surplus from self-generated sources, and issuing licenses for the establishment of production companies aimed at local consumption or export.  

In other words, the public-private partnership revolves around leveraging the historical infrastructure of the public company for the benefit of the private sector, primarily foreign investors. This model transforms electricity into a commodity and transfers the true costs to citizens, as the foreign investor’s goal is profit, not providing a public service such as the National Electricity and Gas Company.22 

In the same direction, international financial institutions continue to exert pressure on the Tunisian state to carry on with these reforms. For example, according to the strategy of the European Bank for Reconstruction and Development in Tunisia (2018-2023)—one of the main financial arms for renewable energy projects in Tunisia—we find among the “necessary changes” the “STEG’s control over the energy sector (including renewables) and the excessive subsidization of energy.”23. Additionally, the bank sets as one of its goals “to support and finance the liberalization of sectors dominated by the state, such as renewable energies, to encourage private sector involvement.”   

Recently, there has been a significant acceleration in the implementation of renewable energy projects and their legislative framework. This includes the government decree on the transmission of electricity from renewable sources, signed by Prime Minister Ahmed El Hashani six months after his inauguration (December 2023), and the memorandum of understanding on green hydrogen with Total in May 2024.  

The decline of protest movements and the weakening of civil societies and political organizations, combined with the absence of public debate, have allowed the authorities to pass policies that impact national sovereignty —despite their rhetoric— and citizens’ rights to energy. This situation has also enabled international financial institutions to navigate around the “lack of social consensus and the potential tensions that could arise from structural reforms (like subsidy elimination),” especially in critical sectors such as energy, which the European Bank for Reconstruction and Development identifies as one of the risks and challenges to its projects in Tunisia.24

Green hydrogen  

Following the establishment of the national strategy for green hydrogen production25 – funded by German cooperation – Tunisia has accelerated the implementation of planned green hydrogen projects in areas like Gabes.26 On the legislative front, a group of deputies introduced a bill 27 on April 30, 2024, to promote green hydrogen projects, which was subsequently referred to the Committee on Industry, Trade, Natural Resources, Energy, and Environment on May 9. This committee conducted a hearing with the initiative’s representatives on July 4.   

Moreover, on Monday, May 27, 2024, Tunisia signed a memorandum of understanding with the French conglomerate Total Energies and the Austrian “Verbund” to develop and implement green hydrogen projects in Tunisia. According to this memorandum, Europe will receive green hydrogen, enabling it to achieve its goals of increasing the share of energy from clean sources, reducing dependence on Russian gas, while creating new markets for its investments, as European companies will gain from manufacturing and selling the necessary technology and expertise for these projects. 

In return, Tunisia will provide essential natural resources for producing green hydrogen, such as water and land, at very low costs. However, Tunisia will also bear the environmental and social impacts of these projects, once again highlighting an unjust global distribution of labor and wealth. 

Water draining projects in a drought-stricken country  

Tunisia is grappling with a severe water crisis and is categorized among nations facing water scarcity. According to the Food and Agriculture Organization of the United Nations in 2020, Tunisia’s per capita water allocation is approximately 390 cubic meters per year, substantially lower than the global water poverty line of 1000 cubic meters. In this context, the production of green hydrogen presents additional challenges, as it requires significant water quantities for the electrolysis process. 

The production of one kilogram of green hydrogen typically requires between 10 to 15 liters of water. However, estimates suggest that up to 20 to 30 liters may be needed per kilogram, largely due to the inefficiencies of some hydrogen processing methods under natural conditions.28 Given the water scarcity in Tunisia, seawater desalination will be an alternative solution to meet the demands of green hydrogen production. Yet, this process carries negative environmental impacts. Desalination of seawater produces a highly concentrated saline byproduct that is discharged back into the sea, raising marine water salinity and negatively impacting marine life and ecological balance. Studies show that the disposal of this brine can increase salinity levels by up to 50% around desalination plants.29

Similarly, solar energy technologies also demand considerable water resources for cleaning solar panels and for the water-cooling processes necessary in desert climates. This represents a substantial threat to Tunisia’s water reserves. 

Drawing parallels with Morocco’s experience, numerous prominent German firms involved in the Noor Ouarzazate Solar Complex advocated for CSP technology. Supported by the World Bank and the German Development Bank, this technology was chosen to serve the interests of German manufacturing companies despite its high-water demand. Notably, Morocco, like Tunisia, suffers from a “structural water crisis,” as characterized by the World Bank. An environmental impact assessment conducted before the project’s commencement estimated the expected annual water consumption at 6 million cubic meters, although actual consumption significantly exceeded this estimate. It is noteworthy that the Noor Ouarzazate Solar Complex has refused to disclose the true rates of its water usage.30

Real Estate Issue: The Risk of Land Grabbing  

In a second phase of “developing” the legislative framework to facilitate renewable energy projects, amid escalating land-related issues, President Kais Saied employed decree powers to overcome obstacles to the exploitation of state and agricultural lands for these projects. Decree No. 68 of 2022, dated October 19, 2022, regulating “special provisions to improve the efficiency of implementing public and private projects,” exempted all renewable energy projects (not only those for self-consumption) from the requirement to change the agricultural status of lands, “if their feasibility is proven by the Technical Committee for Private Electricity Production from Renewable Energies.”31. This decree also revised the agricultural reform law, enabling foreign capital to utilize agricultural lands by merely establishing companies in Tunisia, without requiring Tunisian participation in their capital or management. It is noteworthy that this legislative change had previously failed several times in the Assembly of the Representatives of the People during the democratic transition.32

To expedite the Tunisian Solar Plan and meet the demands of international financial institutions, the Tunisian state seized disputed lands that had not yet been regularized, through five decrees issued after July 25, 2021. 

These decrees awarded a French-Moroccan33 consortium approximately 400 hectares of communal lands in the Oulad Sidi Abid area. These lands are overseen by the Management Council according to the law according to the 1964 Law on communal Lands, amended in 2016, after previously being annexed to state property. Thus, the state took advantage of the lack of clarity regarding this type of land to make it available for foreign investors, exempting them from the regulations stipulated by the Agricultural Land Protection Law 34. there has been a recent increase in the pace of signing lease contracts for agricultural lands for renewable energy projects at low rates (e.g., 1200 dinars per hectare per year), driven by local authority pressures 35 in various regions including Chenini, Kebili, Gabes, etc.36    

Conclusion: No “Just energy transition” without democracy 

Although the prevailing discourse on “sustainable development” or “green economy” ostensibly advocates for energy alternatives that promise a fair transition, these terms are often hollow and do not reflect any genuine change in the prevailing extractive system.  

The concept of a “Just Transition” posits that justice must be at the core of all climate solutions, ensuring that responses to the climate crisis address the structural aspects of the extractive energy model, while also considering class disparities, sovereignty, and democratic dimensions.37 It is, therefore, necessary not to consider the energy transition merely as a substitution of fossil energies with renewable energies – a pathway imposed by Western companies and governments – because, in this way, it remains nothing more than energy expansion, not energy transition. 

It becomes clear, then, that what is referred to as energy transition, in the Tunisian context, does not include projects that diversify the energy sources needed by Tunisian society. Instead, it perpetuates the existing energy model while allocating Tunisian lands, water, and infrastructure for the benefit of foreign investors and for export purposes. Moreover, these projects are invariably linked to borrowing from international financial institutions, further increasing the country’s debt. The latest of these loans were three agreements ratified by the “Assembly of the Representatives of the People” to finance the ELMED project, aimed at establishing electrical interconnection between Tunisia and Italy and supporting the production of renewable energy. 

This project’s funding was part of a memorandum of understanding signed by Kais Saied in July 2023 with the European Union38. The essence of this memorandum is to provide financial aid to Tunisia and overlook issues of rights and freedoms in exchange for the Tunisian state’s continued efforts to combat irregular migration and cooperate in the forced deportation of Tunisian migrants from the Schengen area or migrants intercepted at sea, and the implementation of European energy projects, echoing a situation reminiscent of the Ben Ali era.   

Contrary to what is promoted, renewable energy projects do not involve technology transfer, and their operational capacity is limited. The countries that manufacture this technology and their economic fabric will be the beneficiaries of these projects in a way that sustains the global division of labor: Northern countries export high-value-added technology and industrial products, while Southern countries supply raw materials and cheap labor. 

While Tunisia partially benefits from solar energy to meet its local needs, it gains little from green hydrogen, which is primarily aimed at export without substantial benefits to the Tunisian industrial sector. In addition, it requires the desalination of vast amounts of seawater, which could otherwise be used to address drought issues or for agriculture.  

Moreover, the critical issue of water is overshadowing an equally grave but under-addressed real estate issue, where communal and agricultural lands are seized without regularizing their status, using various pressure tactics without considering the resultant social tensions. 

The energy file once again reveals the falsehood of the current authority’s sovereignty rhetoric. The government invokes national sovereignty in response to civil society’s demands for respecting international obligations regarding rights and freedoms. Yet, it overtly conforms to European directives in matters that truly affect Tunisian sovereignty and vital resources, such as agricultural lands and water. This purported sovereignty 39 is further undermined in the migration issue, where Tunisia acts as a border guard for Italy, overlooking the responsibilities of its neighbors, Algeria and Libya, in the migrant crisis.   

Finally, the authorities’ discomfort with this issue is evident in their handling of environmental protest movements. Activists from the “Stop Pollution” movement in Gabes faced harassment and pressure from supporters of the President of the Republic during their march to commemorate the decision to dismantle the chemical complex’s industrial units. They were accused of “agitating the situation to benefit opponents of the July 25 path.” by some social media pages supporting the president. Similar to the 18/18 movement in Jerjis, this scenario illustrates that no social movement, no matter how noble its cause, can be detached from fundamental freedoms, and that the populist authority, despite using the rhetoric and slogans of social movements, will not genuinely support them unless they align with its own agenda. 

 ___________________________________________________________________________________________ 

  1. Newell and Phillips (2016): Neoliberal energy transitions in the South: Kenyan experiences, Geoforum, Volume 74, 2016, Pages 39-48.    ↩︎
  2. Geels (2002): Technological transitions as evolutionary reconfiguration processes: a multi-level perspective and a case-study, Research Policy, Volume 31, Issues 8–9, Pages 1257-1274.    ↩︎
  3. Geels (2011): The multi-level perspective on sustainability transitions: Responses to seven criticisms, Environmental Innovation and Societal Transitions, Volume 1, Issue 1, 2011, Pages 24-40.    ↩︎
  4. Spaces ↩︎
  5. Newell, P and Mulvaney, D. (2013): The political economy of the ‘just transition’ The Geographical Journal, 2013, doi: 10.1111/geoj.12008  ↩︎
  6. Bayliss, Kate & Fine, Ben. (2008). Privatization and Alternative Public Sector Reform in Sub-Saharan Africa: Delivering of Electricity and Water.    ↩︎
  7. Friends of the Earth International, If it’s Not Feminist, it’s Not Just, 2021, https:// tinyurl.com/4j9dd8u9; Indigenous Environmental Network, Indigenous Principles of Just Transition, 2017   ↩︎
  8. Hamouchene, H., & Sandwell, K. (2023), Dismantling Green Colonialism Energy and Climate Justice in the Arab Region, Pluto Press, Transnational Institute.    ↩︎
  9. Louati Imen – Rosa Luxemburg Foundation (November 2022): Tunisia, what is energetic in Tunisia? (Arabic)    ↩︎
  10. Figures of the National Energy Observatory (ONE), cited in ITCEQ (2017): Politique énergétique en Tunisie, Notes et Analyses de l’ITCEQ, N°55-Mai 2017     ↩︎
  11. National Energy Observatory – ONE (December 2023): Energetic conjuncture    ↩︎
  12. Louati Imen – Rosa Luxemburg Foundation (November 2022), art,cit.  ↩︎
  13. OTE (2022), op. cit. p6   ↩︎
  14. Tunisian Observatory of Economy – Transnational Institute (2022): ‘Renewable’ Energies in Tunisia: An Unjust Transition, Briefing Paper No. 12   ↩︎
  15. Hamouchene, H., « Desertec: the renewable energy grab? », New Internationalist, 01 March 2015.    ↩︎
  16. Tunisian Observatory of Economy (2015): ‘Desertec or Europe’s Plan B in Response to the Russian Threat,’ Analytical Notes  ↩︎
  17. Louati Imen – Rosa Luxemburg Foundation (November 2022), art,cit.   ↩︎
  18. Hamouchene, (2015), op. cit.    ↩︎
  19. The Working Group for Energy Democracy – The Legal Agenda (March 19, 2024): In Southern Tunisia: Land Grabbing for the Benefit of Green Capitalism   ↩︎
  20. A form of indirect energy subsidy  ↩︎
  21. Tunisian Observatory of Economy: The Impact of IMF Reforms on the Public Electricity Service – Infographics (May 12, 2023)   ↩︎
  22. Al Bawsala Organization (April 4, 2024) – Dialogue Meeting: Energy Transition and ‘Green’ Investments in Tunisia: Arbitrary Policies in Favor of Foreign Investors? – Intervention by Saber Ammar   ↩︎
  23. European Bank for Reconstruction and Development: Tunisia Country Strategy as approved by the Board of Directors on 12 December 2018   ↩︎
  24. EBRD (2018), op,cit.    ↩︎
  25. Ministry of Industry (06/09/2023): National Strategy for the Development of Green Hydrogen and its Derivatives in Tunisia  ↩︎
  26. Express FM (June 26, 2024): Gabes: Providing the Suitable Ground for Green Hydrogen Projects   ↩︎
  27. Proposed Law No. 2024/038 on Promoting Green Hydrogen Projects  ↩︎
  28. Lampert, D. J., Cai, H., Wang, Z., Keisman, J., Wu, M., Han, J., Dunn, J., Sullivan, J. L., Elgowainy, A., & Wang, M. (2015). Development of a Life Cycle Inventory of Water Consumption Associated with the Production of Transportation Fuels.   ↩︎
  29. Al Bawsala Organization (June 6, 2024) – Majalat Podcast: “Green Hydrogen Production in Tunisia: A Solution to the Energy Crisis or Clean Colonialism?” Guest of the Episode: Researcher and Activist in the Stop Pollution Campaign, Saber Ammar   ↩︎
  30. Aïda Delpuech and Arianna Poletti – Inkyfada (November 11, 2022): TuNur: The Dark Areas Behind the Export of Tunisian Sunshine to Europe   ↩︎
  31. The Working Group for Energy Democracy – The Legal Agenda (2024), art,cit.   ↩︎
  32. Ibid.  ↩︎
  33. The deal awarded in June 2021 to the French-Moroccan consortium ENGIE-NAREVA for the implementation of a photovoltaic power station with a total capacity of 100 megawatts in the Sakdoud area, belonging to the Redeyef municipality in Gafsa governorate.  ↩︎
  34. The Working Group for Energy Democracy – The Legal Agenda (2024), art,cit.    ↩︎
  35. Al Bawsala Organization (April 4, 2024) – Dialogue Meeting, Mentioned.  ↩︎
  36. Ibid.    ↩︎
  37. Hamouchene, H., & Sandwell, K. (2023), op. cit, p11.    ↩︎
  38. European Commission – Press Release: Memorandum of Understanding on a Strategic and Comprehensive Partnership between the European Union and Tunisia. Tunis, July 16, 2023  ↩︎
  39. The Legal Agenda – Tunisia (Issue 27: July-September 2023)  ↩︎
]]>
https://www.albawsala.com/en/publications/articles/20246628/feed 0
الانتخابات “المحلية” أو مشروع الرئيس الأصلي: مسار لا سياسي وغموض قانوني أدى إلى مقاطعة واسعة https://www.albawsala.com/en/publications/20246358 https://www.albawsala.com/en/publications/20246358#respond Fri, 15 Mar 2024 19:17:15 +0000 https://www.albawsala.com/?p=6342 انعقدت يوم الأحد 24 ديسمبر 2023 الدورة الأولى من الانتخابات “المحلية” التي تعتبر الخطوة الأولى لانتخاب المجلس الوطني للجهات والأقاليم (الغرفة النيابية الثانية). تُشكّل هذه الانتخابات جوهر المشروع الأصلي الذي ينادي به الرئيس قيس سعيد منذ 2013 والذي قام بتنزيله تدريجيا منذ 25 جويلية 2021 بعد تجميده للبرلمان بتأويل متعسف للفصل 80 من دستور 2014 قبل تعليق العمل به ليمرّر عبر الاستفتاء دستور 2022 الذي صاغه بنفسه بعد استشارة صورية.

أتت هذه الانتخابات بعد أن استغل الرئيس قيس سعيد سلطة المراسيم1 لحلّ المجالس البلدية المنتخبة2 يوم 8مارس 2023 قبل شهرين أو ثلاثة من انتهاء عهدتها وثلاثة أيام قبل انعقاد الجلسة الافتتاحية لبرلمانه، ولوضع تركيبة المجالس المحلية والجهوية ومجالس الأقاليم والمجلس الوطني للجهات والأقاليم (المرسوم عدد 10) ولتنقيح القانون الانتخابي (المرسوم عدد 8) رغم أن دستور قيس سعيد نفسه يستثني المادة الانتخابية من التشريع بالمراسيم.

تركيبة المجالس المحلية والجهوية ومجالس الإقليم والمجلس الوطني للجهات والأقاليم حسب المرسوم عدد 10 و الأوامر المكملة له لسنة 2023

المصدر: البوصلة

وقد نبهت منظمة البوصلة إلى الإشكاليات القانونية والسياسية المتضمنة بمراسيم 8 مارس3 والتي يمكن تلخيصها في غياب الصلاحيات وآليات التحكيم بين هذه المجالس، شروط ترشح إقصائية وماراثون انتخابي ناتج عن العدد الكبير للدوائر الانتخابية والقرعة كل 3 أشهر.

أبرز الإشكاليات المتعلقة بالانتخابات “المحلية”

المصدر: البوصلة (أوت 2023)

وبمرور الأشهر وبعد تكتّم السلطة على تاريخ هذه الانتخابات ما دفع هيئة الانتخابات إلى محاولات الاستباق والتخمين، لم يقع تلافي الإشكاليات القانونية المتعلقة بصلاحيات واختصاصات هذه المجالس حيث اكتفى قيس سعيد باستكمال الخطوات الشكلية لانعقاد هذه الانتخابات وهي استكمال تركيبة هيئة الانتخابات التي عرفت استقالات أفقدتها النصاب القانوني اللازم لاتخاذ قرارتها، وإصدار أمر تقسيم الأقاليم4 قبل أن يصدر أمر دعوة الناخبين للمشاركة في الانتخابات التشريعية يوم 24 ديسمبر 2023. وبهذا شهدنا حملة انتخابية لمترشحين يجهلون صلاحيات المجالس الذين سيشكلونها.

الاستنباط القانوني لمجالس دون صلاحيات

في مشهد صار يتكرر، وبعد أن نصّبت هيئة الانتخابات ولايتها الكاملة على التغطية الإعلامية للانتخابات، حشرت الهيئة نفسها في صف المفسّرين والمؤوّلين لمشروع الرئيس، فإن كانت أحيانا تتحاشى الأسئلة السياسية المحرجة وتؤكّد على اقتصار دورها على البعد التقني المتمثّل في حسن سير العملية الانتخابية فإنها ومع إصرار قيس سعيد على المضي قدما في مشروعه الغامض صارت تتطوع لسدّ ثغراته القانونية وتناقضاته العمليّة.

يكمن السبب الأساسي في غموض دستور قيس سعيد ورؤيته الاختزالية للجماعات المحلية التي لا تأخذ بعين الاعتبار جميع جوانبها القانونية خاصة إذا ذكّرنا بموقفه منها إذ يراها تهديدا لوحدة الدولة رغم ادعائه أن مشروعه مبني على تمكين المحليات.

يقتضي وضع مؤسسات تتمتع بصفة الجماعات المحلية أن تحدّد اختصاصاتها بدقة. إن الاختصاص الذي يعني قانونيا السلطة الممنوحة حسب تأهيل تشريعي لاتخاذ قرارات لها أثر قانوني في مجالات تدخّل محددة بدقة5، هو نظريا من مشمولات السلطة التشريعية ويستوجب الدقة والوضوح والمقروئية تجنبا لتنازع الاختصاصات6.

على عكس دستور 2014 الذي صنّف صلاحيات الجماعات المحلية وحدّد المبادئ التي ترتكز عليها اختصاصاتها وهي التدبير الحر والتفريع وربط الاختصاصات بالموارد7، اقتصر دستور قيس سعيد على فصل يتيم مقتضب8 في حين اقتصر تشريعه على المرسوم 10 الذي أحدث هيكلا جديدا دون تحديد اختصاصاته. هذ بالإضافة إلى إجراء “انتخابات” يتعيّن على المترشحين فيها تقديم موجز لبرنامجهم الانتخابي دون معرفة هذه الاختصاصات، ويشتمل هذا البناء على إمكانية سحب الوكالة الذي يتم في صورة لم يحترم المترشح هذا البرنامج، وهو شكل آخر من أشكال العبث.

أمام هذا الغموض، “اجتهدت” هيئة الانتخابات في استنباط حلول لسد هذا الفراغ القانوني دون جدوى حيث لا تصمد مقترحاتها أمام التحليل القانوني البسيط. فإن كان من الممكن نظريا محاولة الاعتماد على مجلّة الجماعات المحليّة لتسيير البلديات أو المجالس البلدية إن تمّ انتخابها أو المجالس الجهوية نظرا لوجود نصّ ينظمها9 فإن المجالس المحلية التي أحدثها دستور قيس سعيد وضعها أمام ورطة الفراغ القانوني التام. وهو ما جعلها تلجأ إلى تأويل غريب يتمثل في أنّ قانون المجالس المحلية للتنمية لسنة 101994 ينطبق عليها.

بقطع النظر عن عدم أهليّة الهيئة لتأويل القانون وللتدخل في مجال تحديد الاختصاصات، لا بد من التأكيد على أن هذا القول لا يستقيم على أكثر من مستوى11. فالمجالس المحلية للتنمية (قانون 1994) هي مؤسسة لامحورية (أي من امتدادت المركز) معيّنة لا منتخبة يرأسها المعتمد ودورها استشاري على عكس المجالس المحلية تماما التي تعتبر جماعات محلية منتخبة. كما أن قانون 1994 هو قانون عادي في حين يجب أن تتخذ النصوص المتعلقة بالمجالس المحلية شكل قانون أساسي حسب دستور قيس سعيد. دون أن ننسى أنّ هذا الأخير وهو المشرّع والمؤوّل الحقيقي الوحيد قد تناول أخيرا هذه المسألة وضرب عرض الحائط كلّ هذه التأويلات حيث أوضح حسب نصّ البلاغ الذي عقب لقائه برئيس هيئة الانتخابات يوم 6 مارس المنقض أن هذه المجالس المحلية والجهوية إلى جانب مجالس الأقاليم لا تنسحب عليها أحكام مجلة الجماعات المحلية كما يُروج البعض لذلك” وأضاف أن “هناك من يسعى بصفة مقصودة إلى الخلط بين المجالس الجهوية (قانون أساسي 1989) أو المجالس المحلية للتنمية (قانون 1994)…هذان الصنفان من المجالس لا علاقة لهما بالمجلس الوطني للجهات والأقاليم…”12 في إحراج للهيئة ذاتها.

هيئة الانتخابات: الولاية الكاملة على التغطية الإعلامية للانتخابات

كانت التغطية الإعلامية للانتخابات التشريعية في 2022 موضوع أزمة بين هيئة الانتخابات والهايكا. حيث أعلنت هيئة الانتخابات “ولايتها الكاملة على الشأن الانتخابي دون سواها“ عوض أن يتم تحديد قواعد النفاذ وتغطية الحملة الانتخابية التشريعية بوسائل الإعلام والاتصال السمعي والبصري بموجب قرار مشترك مع الهايكا التي أسند إليها القانون الانتخابي (الصادر في 15 ماي 2004) هذه الصلاحية، قبل أن يلغي المرسوم عدد 8 لسنة 2023 المنقّح للقانون الانتخابي التشاور مع الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري وإصدار قرارات مشتركة معها13.

”الهيئة (الهايكا) استُبعدت من مراقبة الانتخابات بسبب موقفها من الانتخابات التشريعية، حيث رفضت إمضاء القرار المشترك مع هيئة الانتخابات، واعتبرت أنّ الانتخابات تفتقر في تغطيتها إلى الحدّ الأدنى من الموضوعية، ونالت الهيئة نصيبها من الغضب عندما رفضت خرق رئيس الجمهورية للصمت الانتخابي، فكان أن أُلغي وجودها من الدستور واستبعادها وفق ذلك المرسوم“، يقول هشام السنوسي عضو هيئة الاتصال السمعي البصري لنواة، ويضيف: ”بالنسبة إلينا، نحن نراقب جميع المضامين بما فيها المضامين المتعلّقة بالدّعاية السياسية وسنراقبها وفق المعايير الموضوعية الموجودة في المرسوم عدد 116 لسنة 2011 وفي كراسات الشروط“، منبّهًا إلى أنّ سلوك هيئة الانتخابات “فيه مسّ من استقلالية وسائل الإعلام“ بما من شأنه ”أن يشكّل ضغطًا عليها“.

مناخ لا سياسي

نظريا وفي الديمقراطيات، تمثّل المواعيد الانتخابية فرصة لدفع النقاش العام نحو مشاريع وطنية مختلفة وهو الدور الذي تلعبه الأحزاب. بعد شيطنة الأحزاب خاصّة المعارضة منها وإقصائها عمليّا بالقانون الانتخابي ونمط الاقتراع على الأفراد، تدور هذه الانتخابات بمقاطعة من الأحزاب الأساسية المكونة للمشهد السياسي التونسي. بعد التدنّي الفادح لنسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية 2022، حتى الأحزاب الموالية لسلطة 25 جويلية كحركة الشعب كانت متيقّنة من حتمية فشل هذا الموعد الانتخابي ودعت إلى تأجيله.

إضافة إلى الانفراد بالرأي وتمرير قرارات مصيرية بالقوة ودون مناقشة مواطنية، عرفت الأشهر المؤديّة إلى هذه الانتخابات المحليّة تصاعدا كبيرا لوتيرة انتهاك حرية التعبير وهو ما ساهم في إفراغ الفضاء العمومي من أي نقاش سياسي حقيقي. فبعد إصدار المرسوم 54 لسنة 2022، تحوّل هذا النص إلى آلية جديدة لاستهداف الصحفيين بدل المرسوم 115 المنظّم للمهنة. حسب تقرير وحدة السلامة بالنقابة الوطنية للصحفيين تمّ خلال الفترة الممتدة بين نوفمبر 2022 وأكتوبر 2023 تسجيل 27 حالة تتبع عدلي ضد الصحفيين خارج إطار المرسوم 115 منها 7 على معنى المرسوم 54، و10 على معنى فصول من المجلة الجزائية. على سبيل المثال يمكن أن نذكر حالة الصحفية منية العرفاوي التي مثلت أمام القضاء بسبب شكايتين قدمّهما ضدّها وزير الشؤون الدينية على خلفية مقال صحفي كما أصدر القضاء التونسي حكمين بالسجن أحدهما صادر عن قطب مكافحة الإرهاب اســتئنافيا بخمس ســنوات سجن ضد الصحفي خليفة القاسمي بعد استئناف النيابة العمومية لحكـم ابتدائي بسنة واحدة سـجن ويعتبـر الحكم الأقسى خلال السـنوات العشـر الأخيرة في حق الصحفيين14.

كما تمّ استعمال هذا المرسوم و غيره من النصوص في المجلة الجزائية و مجلة الاتصالات لاستهداف حرية التعبير و ملاحقة ناشطين وناشطات و مواطنين.ات على خلفية تصريحات إعلامية أو تدوينات تندرج في إطار حرية التعبير. يمكن ملاحظة أن هذا المرسوم صار آلية مفضلة لدى مسؤولين في السلطة كالوزراء لاستهداف منظورين لهم كالنقابيين أو صحفيين تناولوا بالنقد مردودهم أو إدارتهم لمؤسساتهم كما صار أحد الآليات الذي تستعمله هيئة الانتخابات لإسكات منتقديها. فقد قامت بتقديم شكوى على معنى هذا المرسوم ضد ناشطين في المجتمع المدني بسبب تعبيرهم عن رفضهم للتقسيم الترابي الجديد في تصريحات صحفية15.

ساهم هذا الهجوم في الضغط على وسائل الإعلام والصحفيين وعودة الخوف والرقابة الذاتية، خاصة بعد أن عادت مظاهر الرقابة والخطاب الأوحد الممجّد للسلطة والتحكّم في الإعلام العمومي16. يظهر ذلك بوضوح في استبعاد القوى السياسية المعارضة من الظهور في التلفزة الوطنية وعودة ممارسات الصنصرة في هذه المؤسسة وغيرها كوكالة تونس إفريقيا للأنباء الرسمية.

لم تحاول السلطة القائمة إخفاء هذه الرغبة حيث اجتمع قيس سعيد خصيصا برئيسة مؤسسة التلفزة التونسية في مشهد مذلّ أين وبّخها بسبب حضور ضيف لم يرق له في أحد برامج التلفزة واعتبر أن العديد من البرامج التي تبثّها القناة الوطنية -فضلا عن نشرات الأخبار وترتيب الأنباء- “ليست بريئة”. وهو ما اعتبرته النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين “سابقة خطيرة لم يقدم عليها غيره”. كما انتقد في مناسبات أخرى عمل التلفزة الوطنية التي لم تغطّ حسب رأيه بما يكفي نشاط السلطة المتمثل حينها في حملة أمنية لإبعاد المهجرين والمهاجرات من ساحة باب الجبلي بصفاقس. دون أن ننسى استهدافه المباشر لبرنامج ميدي شو الإذاعي أثناء مشاركته في قمة الفرنكوفونية بجربة والذي سبق تتبّع فريق البرنامج وإيقاف مدير الإذاعة.

الترشحات

كان واضحا للجميع بعد النتائج الكارثية التي عرفتها الانتخابات التشريعية في ديسمبر 2022 أن العدد الكبير للدوائر الانتخابية (2155) وشروط الترشح (50 تزكية) أنّ الحصول على ترشحات في جميع الدوائر يعدّ تحديا حقيقيا. أدى ذلك قبل عقد الانتخابات إلى محاولات من الهيئة لاستباق هذه الصعوبات عبر التخفيف في الشروط كعدم اشتراط التعريف بالإمضاء للتزكيات بعد أن قلّص الرئيس قيس سعيد في عدد التزكيات المستوجبة للترشح إلى 50 تزكية بطريقة اعتباطية17. كما قامت الهيئة بالتمديد في فترة قبول الترشحات بستة أيام سعيا منها لتلافي النقص المسجل في الترشحات18.

رغم ذلك، تمّ اعتبار وجود ترشحات في جميع الدوائر تقريبا إنجازا من قبل الهيئة التي تغاضى ممثلوها عن حقيقة وجود تنافس سياسي فعلي عند ملاحظة الترشحات، حيث شهدت الانتخابات 26 دائرة انتخابية بيضاء (دون مترشحين) و218 دائرة بمترشح وحيد أدت إلى انتصاره آليا. دون أن ننسى المشاركة الكارثية للنساء إذ لم تسجل سوى 13,3% من الترشحات كنتيجة لإلغاء التناصف ما أدى إلى تمثيلية كارثية للنساء في المجالس المحلية (10.19%) وهي الأضعف في جميع المواعيد الانتخابية منذ 2011

19المصدر: المفكرة القانونية وموقع الصباح (بناء على أرقام هيئة الانتخابات)

النتائج

كما كان متوقعا، ورغم كل الخطوات المتخذة من هيئة الانتخابات كالعدد المهول من الإرساليات القصيرة للمواطنين.ات والتي بلغت حدّ الهرسلة أو التسجيل الآلي للناخبين والتمديد في أوقات عمل مكاتب الاقتراع مقارنة بانتخابات ما قبل 25 جويلية، سجّلت الانتخابات نسبة مشاركة هزيلة استقرّت حسب أرقام الهيئة في حدود 11,66% وكانت أولى ردود الفعل لممثليها تبريرية عدائية. رغم أن دور الهيئة يقتصر قانونيا على حسن تنظيم العملية الانتخابية، كانت تصريحات سليم بوعسكر أشبه بالردّ على من تساءل حول مدى صحّة النسبة التي أعلنت عليها هو ما يمكن تفهّمه نظرا لغياب أي اهتمام من المواطنين والرأي العام بهذه الانتخابات، حيث لم يكن هناك أي مؤشر في الشارع التونسي على وجود انتخابات أصلا ما عدى ما كانت تبثه التلفزة الوطنية20.

هيئة الانتخابات: من ناطق رسمي باسم مسار 25 جويلية إلى فاعل أساسي في قمع الحريات

كما أشرنا، وفي مختلف محطات هذا المسار الانتخابي، كانت الهيئة ناطقا رسميا باسم خيارات الرئيس، فدافعت عن القانون الانتخابي ونمط الاقتراع وحاولت سدّ الفراغ القانوني وحتى تفسير أسباب نسب المشاركة المتدنيّة. إلا أن دورها الأخطر تمثل في تحوّلها إلى فاعل أساسي في قمع الأصوات المعارضة باستعمال أحد أدوات النظام وهو المرسوم 54 المعادي للحريات. هكذا، تمّ إضافة أحكام إضافية للسجينين السياسيين عبير موسي وجوهر بن مبارك نتيجة لشكاية قدمتها ضدهم الهيئة على معنى المرسوم 54 على خلفية تصريحاتهم الصحفية حول الانتخابات التشريعية المجراة في ديسمبر 2022.

كما استغلت “ولايتها الكاملة عن التغطية الإعلامية للانتخابات” لهرسلة موقع نواة والتضييق على عمل صحفييه حيث تلقت إدارة نواة إشعارًا من هيئة الانتخابات يوم 6 فيفري 2024 بشأن مقال نُشر على موقعها في 26 جانفي 2024، والذي تمت مشاركته على وسائل التواصل الاجتماعي في 28 جانفي، يتناول القضايا السياسية والقضائية المتعلقة بالتآمر على أمن الدولة. اعتبرت الهيئة أن المقال خرق قواعد الحملة الانتخابية وواجب الحياد، وأورد أخبارًا زائفة قد تضلل الناخبين. رد فريق تحرير نواة موضحًا أن المقال كان مقال رأي يهدف إلى فتح النقاش وليس له علاقة بالانتخابات المحلية أو التشريعية، وأن الهيئة تتبع تفسيرًا خاصًا للقراءة السياسية قد يؤثر على حرية التعبير21. وقد عبّرت عديد الجمعيات في بيان مشترك22 عن تضامنها مع موقع نواة وحق صحفييه في ممارسة عملهم دون رقابة مسبقة أو تهديدات. كما اعتبرت أن هذه الخطوة تندرج في إطار قتل التداول السياسي في الفضاء العمومي وإخلاء الساحة من كل الأصوات الناقدة للسلطة الحالية.

ويبدو أن هيئة الانتخابات تنوي المواصلة في نهج تكميم الأفواه حيث قالت في بلاغ لوسائل الاعلام أنّ الفترة الانتخابية تستمرّ حتى تركيز مجلس الجهات والاقاليم في إشارة إلى استمرار “ولايتها الكاملة” ورقابة وحدة الرصد لديها على وسائل الإعلام، واستعدادها لمواصلة استعمال المرسوم 54 كسلاح ضد من يشكك في عملها.

مهازل انتخابية أخرى في الأفق

عوض الوقوف على أسباب فشل هذا المسار، تمادت السلطة في تبريره، فبعد أن تمّ اتهام السياسيين المتهمين في قضايا التآمر بتلقي الأموال من دوائر أجنبية لإفشال الانتخابات المحلية ، كرّر رئيس الدولة ما قاله بعد الانتخابات التشريعية في ديسمبر 2022 إذ صرّح أنّ نسبة “%11 بنزاهة أفضل من 99 % مزورة” بشكل يوحي بأن عدم تزوير الانتخابات هي منّة يجب أن تشكر عليها السلطة الحالية. ورغم ذلك، يواصل الرئيس حملته الانتخابية المتواصلة بزياراته الفجئية التي تغطيها التلفزة الوطنية لساعات -بعد أن تلقّفت تنبيهاته المتكررة- تمهيدا لانتخابات رئاسية قد تجرى هذه السنة في حين توحي كل المؤشرات بأنها -إن تمّ إجراؤها- ستكون مهزلة انتخابية أخرى. حيث لا يمكن أن يشكّل إجراء انتخابات رئاسية في مناخ يفتقد لأي ضمانات لنزاهتها بقضاء تحت الترهيب، وإعلام عمومي تحت السيطرة وحرية تعبير منتهكة مع إقصاء كل المنافسين المحتملين إما بإبقائهم في السجون أو بملاحقتهم قضائيا، إلّا حلقة أخرى من حلقات العبث في هذا المسار الفردي.

إنّ هذا المشهد، إذا أضفنا إليه فشل “الحلول” الاقتصادية التي يطرحها قيس سعيد (أي الشركات الأهلية والصلح الجزائي) أمام تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والذي أدى به إلى الاقتراض المباشر من البنك المركزي لسداد قسط من الديون، يفترض أن يشكّل فرصة أمام المعارضة الديمقراطية لإحراج السلطة وطرح بدائل جدّيّة على الشارع التونسي.

إلا أنّ القوى الديمقراطية أحزابا ومنظمات مجتمع مدني بقيت رغم ذلك في حالة من التّشرذم والإنكار. على سبيل المثال، جاءت محاولة الاتحاد العام التونسي للشغل للضغط على السلطة عبر تجمع نقابي في ساحة القصبة يوم 2 مارس متأخّرة بعد مساعيه المتكررة للحوار معها تحت سقف 25 جويلية 2021 والتي ردّت عليها بالتجاهل (مبادرة الاتحاد مرفوقا بشركائه في الرباعي صائفة 2023) وباستهدافها لدوره الاجتماعي (المنشور 20 لسنة 2021)23 وملاحقة مناضليه على خلفية نشاطهم النقابي.

من ناحية أخرى، لا تزال بعض المبادرات التي تسعى إلى تقديم مرشّح ينافس قيس سعيد تراهن على حسابات خاطئة كالأمل في أن تبادر السلطة بتنقية المناخ وإطلاق سراح المساجين السياسيين وتركيز هيئة مستقلة للإنتخابات في حين لا يرفع صاحبها الذي أعلن صراحة أنه “لن يسلم البلاد لمن لا وطنية له” سوى شعار “لا رجوع إلى الوراء”. كما أنّ مجرّد توحيد المعارضة عدديا لا يعني قدرتها على إزاحة قيس سعيد بالصندوق بقطع النظر عن مدى وجاهة المشاركة في الانتخابات الرئاسية بعد مقاطعة جميع المواعيد الانتخابية التي سبقتها.

في انتظار بديل سياسي واقتصادي جدّي، يبقى الفعل المعارض الوحيد الجدير بالذكر إلى حدّ الآن -إلى جانب النضال الحقوقي “الكلاسيكي” تضامنا مع المساجين السياسيين- بعض النضالات الجزئية اجتماعية كانت أو حول مشاريع قوانين إلا أنها تبقى دون سقف سياسي قادر على تغيير موازين القوى الحاليّة.

  1. منظمة البوصلة (مارس 2023): قراءة أولية في مراسيم 8 مارس 2023: قتل المواطنة باسم البناء القاعدي ↩︎
  2. عبر المرسوم عدد 9 المؤرخ في 8 مارس 2023 القاضي ↩︎
  3. منظمة البوصلة (مارس 2023): قراءة أولية في مراسيم 8 مارس 2023: قتل المواطنة باسم البناء القاعدي ↩︎
  4. منظمة البوصلة (أكتوبر 2023): تقسيم الأقاليم اختزال انتخابي ضيق لتحديات تنموية عميقة ↩︎
  5. La Sorbonne, cité dans -, Thèse, Université de Paris I PontéhonLa compétence fiscale : (2016) Andreas Kallergis البكوش (2022): اللامركزية من أجل الديمقراطية قانون الجماعات المحلية ↩︎
  6. عبد الرزاق مختار: مداخلة بندوة مخبر الحوكمة (16 ديسمبر 2023) بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس ↩︎
  7. تقرير منظمة البوصلة (2024): حصيلة تجربة اللامركزية في تونس: مساهمة في تقييم مرحلة الانتقال الديمقراطي. ص31. ↩︎
  8. الفصل 133: “تمارس المجالس البلديّة والمجالس الجهويّة ومجالس الأقاليم والهياكل التي يمنحها القانون صفة الجماعة المحلّية المصالح المحلّية والجهويّة حسبما يضبطه القانون” ↩︎
  9. أحلام ضيفي مداخلة بندوة مخبر الحوكمة (16 ديسمبر 2023) بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس ↩︎
  10. قانون عدد 87 لسنة 1994 مؤرخ في 26 جويلية 1994 يتعلق بإحداث مجالس محلية للتنمية ↩︎
  11. عبد الرزاق مختار (16 ديسمبر 2023)، تم ذكره ↩︎
  12. موقع رئاسة الجمهورية (6 مارس 2024): لقاء رئيس الجمهورية قيس سعيّد مع السيّد فاروق بوعسكر، رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ↩︎
  13. منال دربالي – موقع نواة (23 نوفمبر 2023): التغطية الإعلامية للحملة الانتخابية: ولاية مطلقة لهيئة الانتخابات ↩︎
  14. منظمة البوصلة (2024): سنة منذ منعرج الاعتقالات السياسية للمعارضة: انتهاك متواصل للحريات في ظل سلطة الفرد ↩︎
  15. كريمة الماجري – جريدة المغرب (1 سبتمبر 2023): في الوقت الذي تستعد فيه الهيئة للانتخابات المحلية: تواصل الانتقادات ورفض مكونات المجتمع المدني لتنظيمها ↩︎
  16. ياسين النابلي- المفكرة القانونية (7 مارس 2022): التلفزة التونسية وأشباح العودة إلى “توجيهات الرئيس” ↩︎
  17. منظمة البوصلة (مارس 2023(، تم ذكره. ↩︎
  18. آدم يوسف – العربي الجديد (13 سبتمبر 2023): تسهيل شروط الانتخابات المحلية في تونس: استباق ضعف المشاركة وصعوبة جمع التزكيات ↩︎
  19. تمّ ذكره في موقع جريدة الصباح (7 فيفري 2024): “الأضعف على امتداد ال13 سنة الماضية: 10.19% تمثيلية النساء في المجالس المحلية” والمفكرة القانونية، عدد 28، خريف 2023: أرقام من الانتخابات القادية: الشعب لا يريد مشروع الرئيس. ↩︎
  20. ياسين النابلي-المفكرة القانونية (23 ديسمبر 2023): انتخابات المجالس المحليّة في تونس: لماذا أصبحَت اللاّحَدَث؟ ↩︎
  21. موقع نواة – بيان بتاريخ 7 فيفري 2024: منعرج خطير في هرسلة الصحفيين والتضييق على المؤسسات الاعلامية ↩︎
  22. منظمة البوصلة ومجموعة منظمات (9 فيفري 2024- بيان مساندة لموقع نواة: الصحافة الحرّة: العدوّ الدائم للأنظمة الاستبدادية ↩︎
  23. منشور عدد 20 لسنة 2021مؤرخ في 9 ديسمبر2021 حول التفاوض مع النقابات والذي يمنع جميع المسؤولين الحكوميين من الشروع في التفاوض مع النقابات قبل الحصول على ترخيص من رئاسة الحكومة ↩︎
]]>
https://www.albawsala.com/en/publications/20246358/feed 0
سنة مُنذ حملةِ الاعتقالاتِ السياسيّة: انتهاكٌ مُتواصلٌ للحريات في ظلِّ سُلطةِ الفرد  https://www.albawsala.com/en/publications/20246160 https://www.albawsala.com/en/publications/20246160#respond Fri, 23 Feb 2024 15:24:19 +0000 https://www.albawsala.com/?p=6158 نشهد هذه الأيام مرور سنة كاملة منذ اعتقال عدد من المعارضين السياسيين بتهمة التآمر على أمن الدولة والذين تمّ اتهامهم من قبل رئيس الدولة بالوقوف وراء كل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. إنّ هذا الموعد الذي يتزامن مع دخول عدد منهم في إضرابات الجوع، احتجاجا على تواصل مظلمة اعتقالهم دون عرضهم على المُحاكمة. في انتهاك جسيم لأبسط حقوقهم الأساسية في الدفاع. يدفعنا للتفكير في تقييم حصيلة النظام الذي وضعه رئيس الدولة قيس سعيّد في علاقة بالحقوق والحريات، خاصة بعد استكمال مؤسساته على أنقاض ما تبقى من مكتسبات التجربة الديمقراطية.

إنّ التّقييم الحقيقي لأنظمة الحكم لا يكون مُطلقا عبر تأويل النوايا والخطابات الحماسيّة المتغطية بشعارات وطنيّة شوفينيّة، والتي غالبا ما تستحضرها الأنظمة الاستبداديّة لاستخدامها كشمّاعة تُعلّق عليها إخفاقاتها. وهو تماما ما يقوم به رئيس الدولة قيس سعيّد منذ انقلابه المُؤسساتي والدستوري يوم 25 جويلية 2021 بعد أن انتقل من تجميد ونسف المؤسسات المُنتخبة والمستقلة إلى تطبيق مشروعه الفردي. أوّلا عبر دستور خطّه بنفسه استأثر بموجبه بصلاحيات واسعة، ثمّ عبر وضع أسس حكمه الفردي باستخدام المراسيم بالتوازي مع قمع الأصوات المُنتقدة لهُ والكاشفة عن قُصور رُؤاه وتصوراته السياسية.

وكمُعظم النزعات الاستبدادية الجانحة إلى الغصب والترهيب، ظلّ سعيّد مُترعا بسُلاف التوجهات والأفكار الإلغائيّة والقمعيّة في إدارة نظام الحكم، وفيّا لما تدعو إليه مُرتكزات الحكم الشعبوي والتمكين السياسي بمفاصل الحكم والدولة. فكانت بوصلته مُتجهة بالأساس نحو الإلغاء والإقصاء لجلّ الأجسام الوسيطة باعتبارها الضامن الأساسي أمام مخاطر التسلّط وتغوّل الفرد. فكانت ترسانة النصوص القمعية السابقة مُدعّمة بالمرسوم 54 لسنة 2022، أرضية لإعلان بدء موسم الإحالات والإيقافات لعدد كبير من الناشطين والناشطات السياسيين والمدنيين والصحفيين الرافضين مُنذ بزوغ فجر الاستبداد الجديد لتوجهات وسياسات صاحب المسار. لتكون سنة 2023 السنة التي أرسى فيها الرئيس دعائم نظامه واستكمل هدم مؤسسات التجربة الديمقراطيّة التي أفِلتْ بنجاحه في تركيع القضاء نهائيا بعد الإعفاءات التي طالت 57 قاضيا بطريقة انتقاميّة، حيثُ لم تُوجّه ضدّهم قرائن إدانة حقيقيّة..، كما رُفض قرار المحكمة الادارية القاضي بنقض قرار العزل في حقّ عدد منهم.

كذلك، فقد عرفت سنة 2023 مُنزلقا قمعيّا خطيرا تمثّل في التوسيع من دائرة القمع والترهيب لتشمل مختلف أطياف العائلات السياسية والحقوقيّة والمدنيّة، والتي استهلّها النظام في شهر فيفري، بملف التآمر على أمن الدول حيثُ زُجّ بعدد من الوجوه السياسية المُعارضة بالسجن بتهم خطيرة تصل عقوبتها للإعدام دون أن تُقدّم السلطات القضائية والسياسية أي دليل أو توضيح للرأي العام بخصوص هذا الملف. بل واقتصر تدخّلها فقط على تبرئة الديبلوماسيين الأجانب ومنع التداول الإعلامي في القضية.

هكذا، مثلت سنة 2023 إضافة لما عرفته من تراكم للصعوبات الاقتصاديّة وضيق الرُؤى والتصوّرات نحو التحسّن والانفراج، تجسيدا لأسس نظام قيس سعيد وتواصلا لتصفية التجربة الديمقراطيّة ومكاسبها خاصة الحريات الجماعية والفردية.

تأتي هذه المقالة، كمُحاولة للوقوف على حصيلة الانتهاكات الحاصلة خلال السنة المُنقضية (الفترة المُمتدّة بين جانفي وديسمبر 2023). ذلك لأنّ واقع الحريات في البلاد على عكس ما يّدعي رئيس الدولة في خطاباته، أصبح مُهدّدا ومُحدّد النطاق والتحرّك فقط داخل أطر سلطته وسياساته الرامية إلى التّضييق على الفضاء العام وخنق فاعلية الأجسام التعديلية الوسيطة، وترهيب كافّة الأصوات المُعارضة بفتح أبواب السجون أمامها وملاحقتها قضائيّا.

ملف التآمر على أمن الدولة: تصفية المعارضة باستعمال القضاء

عاضد سعيّد نظام حكمه بتوجّه نحو نزع البعد السياسي من الفضاء العام التداولي وجعل الدولة من خلال الأجهزة التي يُديرها ويتحكّم فيها، الكائن السياسي الوحيد الفاعل في البلاد.. مع تماهي مفهوم الدولة والشعب مع شخصه كما هو الحال لدى الشعبويين.1 فتجسّدت مُحاولة التبديد تلك عبر إلغائه لدور الأحزاب السياسية في مناسبة أولى ثم إحالة العديد من الشخصيات الحزبيّة والسياسية بتهم التآمر على أمن الدولة وارتكاب فعل موحش ضدّ رئيس الجمهوريّة. في مُحاولة منه لتحجيم الدور الذي يُمكن أن تلعبه تلك التشكيلات في المرحلة السياسية القادمة.
يرتكز خطاب قيس سعيد المُشيطن للمعارضين السياسيين على التخوين والاتهام بالتآمر والإرهاب دون أي دليل يذكر، بدا واضحا منذ 25 جويلية 2021 وما تلاه أن هذا التوجه كان نابعا من عدم تسامح الرئيس مع أي خطاب معارض لسياسته فبعد أن أفرغت الساحة السياسية -ما عدا الموالين- من كل قياداتها بين مسجون وملاحق قضائيا، انتقل خطاب الشيطنة إلى المجتمع المدني والإعلام.
إن هذا التوجّه ليس غريبا على الأنظمة الشعبوية التي تختار الحكم الفردي مع السيطرة أو نسف أو إضعاف كافة أجسام المُعارضة بمختلف تشكيلاتها، حتى لا تطفُو إلى السطح بوادر العجز والفشل وحتى يجسّد الحاكم في ذهنه حالة التماهي التي يسعى إلى خلقها بينه وبين الشعب، دون وجود لأيّ أجسام وسيطة.

إنّ النسق المتسارع للإيقافات الذي شُرع في تنفيذها منذ شهر فيفري 2023، مثّلت مُنعرجا خطيرا لواقع الحريات في تونس. حيثُ شكلت فلسفة العقاب والترهيب مُجتمعةً مع النزعة التسلطيّة للسلطة السياسيّة المشفوعة بثقافة الانتقام، فضاءً حيويّا خصبا لقمع جلّ الأصوات الحرّة والمُعارضة لحالة العبث السياسي واهتراء الإدّعاء بشعار “بمقولة الشعب يُريد” التي انكشف زيفها من خلال نسبة الاقبال الكارثية على الانتخابات التشريعيّة، وحالة الإصرار على انتهاج الخيار القمعي ضدّ المعارضة التي توجهت للتفكير في مبادرة سياسية هدفها إيجاد حلّ تشاركي يُنقذ البلاد من شبح الانهيار بعد فشل مشروع قيس سعيد السياسي الذي تمظهر في نسبة تصويت كارثية في انتخاباته التشريعية المجراة في ديسمبر 2022.

سبق يوم 11 فيفري 2023، تاريخ الشُروع في تنفيذ أولى الإيقافات لعدد من الوجوه السياسيّة المُعارضة لسياسات وتوجهات الرئيس. مُناسبتان جهّز من خلالهما سعيّد هذا القرار عبر الضغط على “الوظيفة” التنفيذية مُمثلة في رئيسة الحكومة و”الوظيفة القضائية” مُمثّلة في وزيرة العدل، أين وجّه خلال اللقاءين أصابع اتهامه إلى “أطراف تُحاول اختلاق الأزمات وبثّ الفتن والإشاعات والتآمر على الدولة والوطن“، مُحمّلا فشل سياساته الاقتصادية إلى تلك الأطراف التي تسعى جاهدة إلى “احباط مشروع حكمه الرشيد” و”عرقلة نجاحاته”.
كما سمح لنفسه خلال اجتماعه مع وزيرة العدل ليلى جفّال قبل يوم من بدء أولى الإيقافات، بأن يتدخّل مرّة أخرى في القضاء بعد أن تولّى قبل سنة تركيعه وضرب استقلاليته. حيثُ عبّر عن استغرابه من وجود من هم خارج دوائر المحاسبة بالقول بأنّ له “ملف ينطق بإدانته قبل نطق المحاكم“.

ومثل كلّ الأنظمة الجانحة نحو الاستبداد والتسلّط، سعت السلطة إلى تكييف هذه الإيقافات بتهمٍ تجعلُ من فظاعة الفعل سهل الهضم مُقارنة مع دسامة التُهم المُوجهة. لذلك كان لا بُدّ من تشويه المُعتقلين السياسيين وتوجيه أخطر التُهم لهم، عبر احالتهم بموجب الجرائم الواردة بقانون مكافحة الارهاب ومنع غسل الأموال. وبتعدّ صارخ على أبسط الحقوق والضمانات القانونية مثل آجال الاحتفاظ المضبوطة بالنسبة للإيقاف ومبدأ المواجهة بين الخصوم. حيثُ قدّمت بعض الشكايات والشهادات المُوجهة ضدّ المعتقلين السياسيين من قبل أطراف تمّ حجب هويتهم وأسمائهم.
لم يتوقّف سعيّد عند هذا الحدّ من الانتقام والتشفي، حيثُ سمح لنفسه بنصب محكمة سياسيّة قامت بإصدار حكمها قبل شُروع القضاء في النظر في هذه الملفات وصرّح بمناسبة زيارته الليليّة إلى مقرّ وزارة الداخليّة بتاريخ 14 فيفري 2023، أنّ “التاريخ أثبت قبل أن تُثبت المحاكم أنّهم مُجرمون” كما اتّهم القضاء بالتهاون والتغطية على الملفات في السابق ودعا القضاة “الشرفاء” لتحمل مسؤولياتهم مُعتبرا أنّ كلّ من “يُبرؤهم هو قطعا شريك لهم“، في تعدٍّ صارخ على قرينة براءة المتهم والحقّ في الدفاع.

كما تُعتبر هذه الزيارة دليلا إضافيا على عدم اقتناع الرئيس بمبدإ الفصل بين السلطات. وهو ما اتّضح منذ 25 جويلية 2021 حيثُ قرّر بمعيّة الإنقلاب الدستوري والمؤسساتي الذي قام به ترأس النيابة العمومية، قبل أن يتراجع تحت الضغط.
كما تأكّدت تلك النزعة نحو التسلّط والإنفراد بالحكم، صلب النظام السياسي الذي وضعه بدستوره أين أصبح يستأثر بكافة الصلاحيات دون فصل حقيقي بين السلطات التي صار يسميها “وظائف”. ويجدر بنا أن نُذكّر أيضا أنّ قرار حلّ المجلس الأعلى للقضاء اتّخذ خلال كلمة ألقاها رئيس الدولة من داخل مقر وزارة الداخلية ليلة يوم السبت 5 فيفري 2022 مع ما يحمله ذلك من رمزيّة تنتصر لذهنيّة دولة البوليس على حساب دولة الهياكل والمؤسسات.+

دفاعا عن الدفاع

لم يقتصر الأمر عند السجن والتنكيل بالموقوفين السياسيين داخل مُعتقلات النظام الحالي. بل امتدّت سطوة وعنجهيّة النظام إلى القيام بمُفارقات عجيبة تُنذرُ بتفشّي نطاق الاستبداد والشُروع في التصفية الجماعية ضدّ كلّ من يصطفّ في الدفاع عن المعتقلين السياسيين لقناعته بحقّ الدفاع المنصوص عليه صلب التشريعات الوطنيّة والاتفاقيات الدولية2.

المتهم.ةالصفةالتاريخالجهة الشاكيةنصّ الإحالةالسبب
العياشي الهمامي (المُثول أمام قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بتونس والإبقاء عليه في حالة سراح، التحقيق في القضية ليزال مُتواصلا)محامي ومنسق هيئة الدفاع عن القضاة المعزولينتاريخ الشكاية: 2 جانفي 2023 تاريخ المُثول: 10 جانفي 2023وزيرة العدل (ليلى جفّال)المرسوم 54 لسنة 2022 الفصل 24تصريح إذاعي لراديو Shems FM وصف فيها طريقة التعامل مه ملف القُضاة المعزولين بالـ”مجزرة”.
عبد العزيز الصيدمحامي وعضو هيئة الدفاع عن الموقوفين في قضية ما يُعرف بالتآمر على أمن الدولة01 جوان 2023وزيرة العدل (ليلى جفال)المرسوم 54 لسنة 2022تبعا للندوة الصحفية التي عقدتها هيئة الدفاع عن الموقوفين في قضية التآمر على أمن الدولة بتاريخ 8 ماي 2023. حيثُ صرّح أنّ وزيرة العدل دلّست محاضر البحث
العياشي الهمامي (الإبقاء عليه في حالة سراح مع اتخاذ تدبير تحجير السفر في حقه ومنعه من الظهور في الأماكن العامة)محامي وعضو هيئة الدفاع عن المساجين السياسيين10 أكتوبر 2023قاضي التحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب استنطاقه من قبل قاضي التحقيق في القضية المُتعلقة بتكوين وفاق بغاية التآمر على أمن الدولة الداخلي
إسلام حمزة
دليلة بن مبارك مصدّق
محامية وعضوة هيئة الدفاع عن المساجين السياسيين28 و29 سبتمبر 2023الوكالة العامة لدى محكمة الاستئناف بتونس التداول إعلاميا في وقائع قضية التآمر على أمن الدولة ونسبة أمور غير صحيحة لموظف عمومي.
إسلام حمزة (الإبقاء عليها في حالة سراح على ذمة القضية)محامية وعضوة هيئة الدفاع عن المساجين السياسيينتاريخ الشكاية: 5 ماي 2023 تاريخ المُثول: 21 جوان 2023الإدارة العامة للسجون والإصلاحالمرسوم 54 لسنة 2022حول سيارة التعذيب التي يُنقل بها المعتقلين السياسيين من السجن إلى المُستشفى للعلاج أو إلى مكتب قاضي التحقيق.
دليلة بن مبارك مصدّقمحامية وعضوة هيئة الدفاع عن المساجين السياسيين05 ديسمبر 2023الوكالة العامة بمحكمة الاستئنافالمرسوم 54 لسنة 2022خرق قرار النيابة العمومية القاضي بمنع التداول الإعلامي والخوض فيما يُعرف بقضية التآمر على أمن الدولة. (***)

إضرابات الجوع: أداة النضال الأخيرة عندما تُوصدُ نوافذ الحريّة

تُشكّل اضرابات الجوع أداة يلجأ إليها المُعارضون داخل الأنظمة الاستبداديّة والديكتاتوريّة للتظلّم والتنديد بحالة القمع والظلم التي يعيشونها. أين يُصبح تعريض النفس إلى الخطر وأحيانا إلى الهلاك، الحلّ الأوحد لإحراج النظام السياسي القائم ودفعه نحو التراجع عن بعض القرارات الزجريّة أو الالتفات لبعض المطالب المشروعة.

حيثُ إنّ اتخاذ قرار خوض معركة الأمعاء الخاوية وما يستوجبه ذلك من إعداد نفسي وبدني ووعي مُسبق بخطورة خوض هذه المرحلة وانعكاساتها المستقبلية على صحّة المُضرب وما قد يُلاحقه من أمراض واضطرابات قد تُلازمه طيلة حياته. يجعل من هذا النوع من التعبير عن الاحتجاج هو الأخطر لا بالنسبة للمُضرب عن الطعام فقط، بل حتى بالنسبة للنظم الاستبدادية والديكتاتورية. حيثُ تسعى هذه الأنظمة إلى تلميع صورتها تُجاه الرأي العام الدُولي والخروج تحت عباءة تطبيقها لمعالم الحكم السويّ واتخاذ النظام الديمقراطي ديدنا في ممارسة السلطة. حتى تُجازى هذه الصورة وإن كانت ظاهريّة فقط بنوع من المُباركة والحماية الدوليّة وتُشفع ببعض المُساعدات التي تضمن ديمومة نظام الحكم.

في تونس، شهدنا خلال الآونة الأخيرة ارتفاعا كبيرا لوتيرة اضرابات الجوع التي شملت عديد القطاعات، ونُفّذت في عديد المواقع. (اضراب جوع المعتقلين السياسيين داخل السجن، اضراب جوع الصحفي خليفة القاسمي داخل السجن، اضراب المحامي مهدي زقروبة داخل مقر عمادة المحامين، إضراب القضاة المعفيين بمقر جمعية القضاة التونسيين، إضراب جوع عائلات المعتقلين السياسيين وأعضاء الديوان السياسي للحزب الدستوري الحرّ تضامنا مع رئيسة الحزب عبير موسي…) وهنا نلحظ تنوّع اضرابات الجوع بين ما هو مطلبي، تنديدي وتضامني، وتعدّد كذلك للمُتدخلين فيه. وذلك بهدف احراج السلطة السياسية ومنع جُنوحها أكثر نحو القمع والاستبداد.
إلّا أنّ رئيس الدولة لم يُحرّك ساكنا تُجاه هذه الفضيحة السياسية التي ستُحاصر أسوار نظام حكمه العاجز حتى على ايجاد حُلول للمطالب المشروعة الرافضة لسياسات التعسّف على القانون والشيطنة التامّة لكلّ من يُعارض المسار السياسي الفردي للرئيس. حيثُ ردّ خلال جولة ليليّة قام بها بتاريخ 4 أكتوبر إلى شارع الحبيب بورقيبة ومحطة القطارات بجبل جلود، على إضرابات الجوع داخل المعتقل السياسي بالقول: “… إنّ خصوم الأمس توحّدوا اليوم…” “…هناك من كان يصفُ خصمه بالسفّاح في السابق (يقصد راشد الغنوشي) واليوم أصبح يُسانده ودخل في إضراب جوع تضامنًا معه…” “…حتى في فرنسا هناك من أضرب عن الطعام… وفي الحقيقة لا وُجود لإضراب جوع كما يدّعون…” فعوض بحثه عن حلول تُنقذ مساره السياسي الذي أصبح محلّ وصم وتشكيك لتراكم العجز والفشل داخله ومُعالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الخانقة بخطابات الشيطنة والتخوين، يُواصل الرئيس في ممارسة فلكلوره السياسي بخطابات تعكس حالة من الصبيانيّة السياسية التي تجعل من اضرابات الجوع وما يحوم بها من خطورة بالغة، محلّ تهريج خطابي.

التاريخالمضرب/بينالصفةمكان إضراب الجوعالسبب
22 جانفي 2023حمادي الرحماني
رمزي بحرية
محمد الطاهر الكنزاري
قضاةمقرّ جمعية القضاة التونسيين3 قضاة معفيّين دخلوا للمرة الثانية في اضراب جوع احتجاجي بمقر جمعية القضاة التونسيين. للتصدّي للانتهاكات الحافة بقرار رئيس الجمهورية بعزل 57 قاضيا بموجب أمر رئاسي. ** القاضي محمد الطاهر الكنزاري تقدّم بقضية بتاريخ 23 جانفي 2023، ضدّ وزيرة العدل ليلى جفّال مُتّهما إيّاها بعدم امتثالها للقانون.
13 ماي 2023الصحبي عتيققيادي بحركة النهضةالسجن المدني بالمرناقيةمُودع بالسجن بموجب قضية تتعلّق بغسيل الأموال. دخل إثر إيقافه بـ 3 أيام في اضراب جوع. 
– احتجاجا على أنّ الواشي تراجع عن أقواله وادّعى أنّه لا يذكُر شيئا، لكن قاضي التحقيق رفض إطلاق سراحه. (وقع نقله إلى العناية المركزة)
23 ماي 2023مهدي زقروبةمحاميمقر الهيئة الوطنية للمحاميناعتصام واضراب جوع تنديدا بفتح بحث تحقيقي ضده على معنى المرسوم 54 لسنة 2022، من قبل وزيرة العدل بعد اثارته لمسألة تضارب المصالح ضدّها
10 جوان 2023أحمد المشرقيرئيس مكتب حركة النهضةالسجن المدني بالمرناقيةاضراب جوع احتجاجي  تنديدا بعمليّة احتجازه منذ 18 أفريل 2023 دون استنطاق أو توجيه تُهم له.
17 أوت 2023ريان الحمزاويرئيس المجلس البلدي المُنحلّ بالزهراءالسجن المدني بالمرناقيةاحتجاجا على الايقاف التعسفي والغير مبررفي حقه، والخرق الواضح للاجراءات التي رافقت ملفه. 
صدر في حقه بطاقة ايداع بالسجن بتهمة التآمر على أمن الدولة بموجب وشاية ضده أقرت بأن له علاقة وطيدة مع مديرة الديواني الرئاسي السابقة نادية عكاشة (دخل في غيبوبة بعد 7 أيام من دخوله في اضراب الجوع بعد تدهور حالته الصحية)
26 سبتمبر 2023جوهر بن مباركقيادي بجبهة الخلاصالسجن المدني بالمرناقيةاضراب جوع دفاعا عن مطلب المعتقلين السياسيين بإطلاق سراحهم ** فكّ إضراب الجوع الخمسي 12 أكتوبر إثر زيارة وفد من الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان نتيجة بداية دهور حالته الصحية. (دام اضرابه عن الطعام 16 يوما)
29 سبتمبر 2023راشد الغنوشيرئيس حركة النهضةالسجن المدني بالمرناقيةاضراب جوع تضامني لمدّة 3 أيام. تضامنا مع القيادي في جبهة الخلاص جوهر بن مبارك. دفاعا عن مطلب كلّ المعتقلين السياسيين بإطلاق سراحهم ورفع المظلمة عنهم. ** حُكم عليه بتاريخ 15 ماي بسنة سجن بتهمة تمجيد الإرهاب. (***)
2 أكتوبر 2023عصام الشابي
عبد الحميد الجلاصي
غازي الشواشي خيّام التركي
رضا بلحاج
المعتقلين السياسيينالسجن المدني بالمرناقيةاضراب جوع  احتجاجا على تواصل المهزلة القضائية التي تتذرّع بيها السلطة لحرمانهم من حريتهم طيلة أشهر عديدة دون تقديم أيّ دليل على الاتهامات التي تمّ توجيهها لهم. المطالبة بإنهاء المظلمة المُسلّطة عليهم والافراج عنهم.
5 أكتوبر 2023عائلات المعتقلين السياسيين مقرّ الحزب الجمهورياضراب جوع تضامني مع المعتقلين
25 أكتوبر 2023خليفة القاسميصحفيالسجن المدني بالمرناقيةاضراب جوع احتجاجي على سوء المُعاملة داخل السجن وايداعه داخل زنزانة مع محكومين في قضايا ارهابيّة.
 عبير موسيرئيسة الحزب الدستوري الحرّسجن النساء بمنوبةإضراب جوع على امتداد أيام حملة 16 يوم من النشاط لمناهضة العنف ضدّ المرأة في تونس. انتهاكات جسيمة لحقوقها الأساسية في الحريّة والصحّة والنشاط السياسي والانتماء الفكري.
10 نوفمبر 2023أعضاء الديوان السياسي للحزب الدستوري الحرّحزب سياسيمقرّ الحزباضراب جوع تضامني مع رئيسة الحزب لمدّة 48 ساعة كحركة احتجاجية للتنديد بالمظلمة المُرتكبة في حقّ رئيسة الحزب عبير موسي.
10 ديسمبر 2023عصام الشابي
غازي الشواشي خيام التركي
جوهر بن مبارك
عبد الحميد الجلاصي
رضا بلحاج
المعتقلين السياسيينالسجن المدني بالمرناقيةاضراب جوع رمزي بمناسبة احياء الذكرى 75 للإعلان العالمي لحقوق الانسان. وذلك: للتنديد بالعدوان الإسرائيلي الغاشم على أهالي غزّة. تنديدا بالانتهاكات الخطيرة والمُتصاعدة لحقوق الانسان بتونس. تنديدا بالاحتجاز القسري والمحاكمات على معنى المرسوم 54 لسنة 2022.

توسّع دائرة الانتهاكات والتضيّيق على الحريات

لم تتوقّف الانتهاكات والإعتداءات في حقّ الفاعلين.ات السياسيين والمدنيين في التعبير عن آراءهم تُجاه سياسات حكم الرئيس الجانحة نحو الاستبداد والتسلّط، في حدود ملف التآمر على أمن الدولة. بل اتّسعت رقعة الترهيب والقمع لتشمل العديد من الوجوه السياسية ورجال الأعمال والحقوقيين والنشطاء المستقلين… وبالرغم من تنوّع صفات وانتماءات المُتهمين، إلّا أنّ العديد منهم يتّحدون في السبب الدافع إلى الإيقاف وهو نقدهم لسياسات حكم الفرد أو طرحهم لبدائل سياسية عمليّة لإنقاذ البلاد من الوقوع في الاستبداد.

تمّت خلال سنة 2023 احالة ما يزيد عن 29 شخص من بينهم حوالي 19 ناشطا سياسيا بتهم مُتنوعة من بينها التآمر والتخابر مع جهات أجنبيّة. وهي من بين التُهم الخطيرة، والتي تترتب عنها عقوبات جزائيّة صارمة. هذا ما يُكسي طابعا سياسيّا ساخرا لهذه المُحاكمات التي كشفت عن نيتها المُتجهة نحو الإنتقام والتشفي. وهو ما يتّضحُ لنا من خلال التلاعب بالإجراءات وعدم احترام حقّ الدفاع والآجال المسموح بيها في الاحتفاظ. إلى جانب غياب أيّ مُعطى جدّي أو مُصارحة حقيقية للرأي العام بخصوص جديّة هذا الملف، بالتوازي مع تبرئة النيابة العمومية جميع الديبلوماسيين الأجانب المُعتمدين بتونس وتنزيههم عن التورّط في تهمة التآمر3 بعد أن تولّت بنفسها في السابق إدراج أسماءهم وصورهم صلب ملف القضيّة.
إنّ هذا التراجع يستوجب منطقيّا تراجُعا في القضيّة برمتها اعتبارا لانتفاء الفعل المُجرّم. إلّا أنّ السلطة السياسية لا تزال مُتعنّتة تأبى التراجع والاعتذار عن قضيّة تمّت فبركتها بهدف الانتقام والترهيب فقط. حيثُ تمّ الزجّ بالقضاء بعد تركيعه من قبل رئيس الدولة، لاستصدار بطاقات الإيداع والأحكام الزجريّة ضدّ المعارضين والنشطاء والفاعلين السياسيين والمدنيين.

هذا وقد تمّ اقحام العديد من الأطراف داخل سلّة المرسوم 54 لسنة 2022، حيثُ لاحظنا إحالة لعدد من شباب الأحياء الشعبيّة وطلبة المؤسسات الجامعيّة ومواطنين دون انتماء أو نشاط سياسي أو مدني على معنى فُصول هذا المرسوم رغم عدم مُعارضة العديد منهم لسياسات الرئيس وعدم اهتمام البعض الآخر بتقلبات الوضع السياسي في تونس والأزمات المُتتالية التي تُعاني منها منظومة الحكم القائمة.
إن هذه المعطيات تؤكّد إذا ما أضفنا إليها الانخفاض القياسي في نسبة المشاركة في مختلف محطات مشروع الرئيس (الاستشارة، الانتخابات التشريعية وحتى الاستفتاء) أنّ الرأي العام لا يدعم مشروع الرئيس السياسي على عكس ما يدّعيه المناصرين له.

إنّ السعي الدائم للسلطة السياسية نحو إلغاء الأجسام الوسيطة هو بمثابة إلغاء نتاج قرنين من التطوّر الذي عرفته الديمقراطية الحديثة4. حيثُ لا يُمكن الحديث قطعا عن الديمقراطيّة في غياب للأحزاب السياسية والجمعيات المدنية والنقابات.
كما تتّسم الأنظمة الشعبوية عند محاولتها التمكّن بأجهزة الدولة وفرض نفوذها وسيادتها، إلى استغلال القوانين والتعسف عليها لتمرير مشاريعها التسلطيّة5. وهو ما فعله قيس سعيد بتعسّفه في قراءة الفصل 80 من دستور 2014 وحلّه للبرلمان والحكومة، وتطويع قانون حالة الطوارئ بطريقة كان الهدف منها هو منع النشاط السياسي للأحزاب وغلق مقراتها. حيث تمّ بموجب قرار صادر عن وزير الداخليّة كمال الفقي منع الاجتماعات بمقر حركة النهضة وجميع مكاتبها داخل التراب التونسي، فضلا عن منع الاجتماعات في مقرّ جبهة الخلاص بالعاصمة وذلك استنادا إلى الفصل 7 من الأمر عدد 50 لسنة 1978 المتعلق بتنظيم حالة الطوارئ. في هجوم واضح على حرية العمل السياسي عبر تسليط القمع الأمني ضدّه. في مشهدٍ يتماهى مع ما كانت عليه الأوضاع ما قبل ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي.

خاتمة

بقدر ما تحملنا جُرعات الأمل المُتبقية إلى أنّ نكسة الديمقراطيّة وضرب مكاسب الحريات في عهد الرئيس قيس سعيّد لن تعدُو عن كونها سحابة عابرة في تاريخ البلاد المُكثّف، ستنقشعُ بمجرّد انقضاء الزمن السياسي لحكم الفرد. إلّا أنّ شُيوع خطابات التخوين والوعيد المُوجّهة ضدّ النُخب السياسيّة والمدنيّة، يبقى عاملا مُحدّدا في تعكّر وضع الحريات في تونس ينضاف إلى نجاح الرئيس في إحكام قبضته على القضاء والجهاز التنفيذي. مع ترجمة نزعته التسلطيّة صلب نصوص تشريعية جديدة تنضاف إلى النصوص القانونية الزجريّة السابقة، إخماد أصوات الحقّ الصادحة بقيم الديمقراطيّة وبمكاسب ثورة الكرامة التي ضحّى في سبيل إقرارها جُموع التونسيين والتونسيات.
هنا يُطرح التساؤل عن الثمن الباهظ الذي سندفعه مُقابل استرداد البلاد من براثن العبث وإعادة بناء مؤسساتها الديمقراطية من جديد بعد هدمها من طرف سلطة قمعية ماضية نحو إعادة الاستبداد، أضحت تعتمدُ على الخوف و التخوين كأداة للحكم والتسلّط.

  1. Notion « d’homme-peuple », Pierre Rosanvallon, Le bon gouvernement, éd. Le seuil, 2015. ↩︎
  2. مثال: المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان المؤرخ في 10 ديسمبر 1948، والمادة 14 من الإعلان الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.  ↩︎
  3. وفقا لبلاغ صادر بتاريخ 1 أفريل 2023 عن النيابة العمومية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب. ↩︎
  4. المولدي قسّومي، الصّراع السياسي في تونس زمن الانتقال الجمهوري، دار محمد علي للنشر، الطبعة الأولى 2023، ص 574. ↩︎
  5. Nadia Urbinati: “Populism and The Principle of Majority” in The Oxford Handbook of Populisme, (ed, Kaltwasser CR, Taggart P, Espejo PO and Ostiguy P), 2017.   ↩︎
]]>
https://www.albawsala.com/en/publications/20246160/feed 0
مقترحُ تنقيحِ مرسوم الجمعيّات: نحو إتلاف آخر مكاسب التجربة الديمقراطيّة https://www.albawsala.com/en/publications/20235899 https://www.albawsala.com/en/publications/20235899#respond Tue, 05 Dec 2023 17:56:27 +0000 https://www.albawsala.com/?p=5888 تُمثّل مكانة المجتمع المدنيّ ضمن رؤية الدّولة ونظام الحكم فيها تجسيدا لإحدى حالات الفَرْزِ بين النّظم الدّيمقراطيّة والنّظم الاستبداديّة، وذلك إمّا عبر مساع دائمة لنسف هذه الأجسام الوسيطة ومنعها من التّمَأْسس والتّنظّم كي لا يتسنّى لها إنجاز مهامّها الرّقابيّة والمواطنية وحتى الاحتجاجية في مواجهة محاولات الانحراف بالنّظام السّياسيّ، أو عبر دعم وجودها وتوفير كافّة الظّروف الملائمة للرّقيّ بمهامّها حتّى تتوفّر لها كافّة شروط المراكمة الفعليّة في سبيل دعم مكاسب الدّيمقراطيّة.

وفي هذا السياق، مثّل المرسوم 88 لسنة 2011 1 الذي صاغته الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي الإطار القانوني لتنظيم تكوين ونشاط الجمعيات في تونس عوضا عن القانون المُنظّم لها قبل الثورة 2، وذلك استجابة للحدث التاريخي الهامّ الذي جاءت به الثورة التونسية والمُتمثل في خلق فضاء حقيقي للحرية والديمقراطية للتصدّي إلى كافة محاولات العودة إلى الاستبداد والتفرّد بالسلطة من جديد. وليكون هذا المرسوم مطبوعا بنفس تحرّري رسّخ حريّة تكوين الجمعيات وممارستها لنشاطاتها. 3
ساهم هذا البعد التحرري في ارتفاع عدد الجمعيات من 9600 جمعية سنة 2011 إلى 24.922 سنة 2023. حيثُ يُترجم هذا الارتفاع الهام إرادة المواطنين والمواطنات في المشاركة الفعليّة والفعّالة في اتخاذ القرارات والمُساهمة في مختلف المجالات التنموية، الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية.
إلّا أن هذا النص قد عرف مُحاولاتٍ عدّة لتنقيحه من قبل السلطة التنفيذيّة كمحاولة لكبح جماح هذا الهيكل الرّقابي والتّعديليّ والحدّ من الازعاج الدائم الّذي يمارسه تُجاه السلطة والجهاز التنفيذي التابع لها.
لكن تبقى محاولة التنقيح الأخيرة هي الأخطر على الإطلاق، والمُتمثّلة في مقترح قانون4 تمّ عرضه على برلمان الرئيس لتتمّ إحالته على لجنة الحقوق والحريات بتاريخ 12 أكتوبر 2023 للنّظر فيه ومناقشته قبل عرضه على الجلسة العامة للمصادقة النهائية.

مقترح القانون الجديد: نحو غلق نهائيّ لقوس الديمقراطية

تتجلى محاولات ضرب الجمعيات في تونس من خلال حجم وخطورة التغييرات الواردة على مقترح القانون الجديد مقارنة بالضمانات التي تمّ التنصيص عليها صلب نصّ المرسوم 88 الذي احترم في صياغته المعايير الدولية المتعلقة بحريّة تكوين الجمعيات5، حيثُ يُمكن تلخيص الهدف من هذا التنقيح في الجُنوح الواضح نحو إطلاق يد الإدارة والسلطة التنفيذية على مختلف المستويات قصد تغليف محاولات التضيّيق والخنق تُجاه الجمعيات بروح من الرّقابة والحماية المغشوشة. 
تتمثّل الخطورة الأولى الواردة بنصّ المُقترح، في محاولات ضرب مبدأ استقلالية الجمعيات عبر حذف عبارة “والحفاظ على استقلاليّتها” الواردة بالفصل الأوّل من المرسوم 88 الذي يضبط أهدافه ومجال ضماناته. وقد تمّت ترجمة هذه النّزعة التسلطية الرامية إلى الخنق والتضييق المُحكم على العمل الجمعيّاتي في العديد من الفصول اللاحقة في مقترح القانون، إذ نجد في الفصل 6 التّنصيصَ على تبعيّة كلّ جمعية لوزارة معيّنة حيثُ تُضبط عملية التوزيع انطلاقا من اختصاص كل جمعيّة.  على سبيل المثال أن تُتبع الجمعيّات الناشطة في المجال البيئي لوزارة البيئة والجمعيات الناشطة في مجال الصحّة لوزارة الصحّة… وتُوكل لهذه الوزارات مهام الإشراف والرقابة على أنشطة تلك الجمعيات حيث يمنحُ الفصل 23 للوزارة المختصة الحق في “التأكد من مطابقة أعمال الجمعيات للقانون حسب نوعية نشاطها” وهو ما يمثّل شكلا من الرقابة الهيكلية التي لا نجدها إلا في الدكتاتوريات، أما في دولة القانون، لا يمكن أن تمارس الرقابة منطقيا إلا من قبل الأجهزة الرقابية المختصة أو القضاء.  

وبهذا الشكل فإنّ الرقابة القبليّة واللاحقة على الجمعيات من قبل وزارة الإشراف سيحدّ من الدور الموكول لها (أي الجمعيّات) والمُتمثّل خاصة في مُراقبة أعمال الحكومة وتقديم المُقترحات الضروريّة بهدف الارتقاء بنشاطها وتحقيق المصلحة العامة، مع العمل على الحدّ من محاولات الانحراف والتسلّط، فقد اضطلعت الجمعيات طيلة فترة الانتقال الديمقراطي بدور أساسي في دفع المواطنين والمواطنات للاهتمام بالشأن العام من خلال انخراطهم صلبها ومُمارستهم لأعمال الرقابة والمُشاركة في أنشطة المؤسسات والهياكل العمومية سواء منها المركزية مثل الوزارات والهيئات… أو الجهوية والمحلية مثل البلديات والمندوبياّت التابعة للوزارات. وذلك عبر مطالب النفاذ إلى المعلومة والمراقبة المواطنيّة للتخطيط وتنفيذ المشاريع. 

كما ادّعى مقترح القانون الجديد المحافظة على نظام التصريح الذي أقرّه المرسوم 88 في إجراءات الإعلان عن الجمعيات، لكن في الواقع نلاحظ أنّ نظام التسجيل المُقترح يمنح سلطة تقديريّة واسعة للإدارة المعنيّة بالعلاقة مع الجمعيات برئاسة الحكومة لتعطيل عمليّة إنشاء الجمعية قانونيا لمدّة شهر من تسلّم التصريح (الفصل 9-2) وهو ما يعطيها عمليا صلاحية رفض التأسيس. كذلك منحت الفقرة 3 من الفصل 9 صلاحيّة الإدارة في تقديم عريضة إلى القضاء المُختصّ للفصل في مطلب إبطال الإعلان دون أن ينصّ الفصل على ضرورة تقديم حُجج أو أسباب لهذا الطلب. وهو ما سيجعل من هذه الصلاحية سلاحا يُستعمل لتعطيل انشاء الجمعيات وسلطة مُشطّة قد تُستعمل أيضا بهدف التعسّف والتشفي. 

 مع الاعتماد على نظام ترخيص مقنّع6 بخصوص الجمعيات الوطنيّة، أقرّ مقترح القانون الجديد نظاما قائما على الترخيص بالنسبة للمنظمات الأجنبية. حيث نصّ مقترح القانون على ضرورة حصول المنظمات الأجنبية على ترخيص صادر من وزارة الشؤون الخارجية يُمكّنها من انشاء فروع لها في تونس (الفصل 6) ، على أن يُسند هذا الترخيص بصفة مؤقتة أو أن يقع تجديده بصفة دورية مع إمكانية سحبه بموجب قرار وفي أي وقت كان (الفصل 20). وهو ما يتعارض مع ما جاء في تقرير المُقرّر الخاص المعني بالحق في حرية التجمّع السلمي والحق في حرية تكوين الجمعيات، ماينا كياي، حيثُ أقرّ بضرورة أن تخضع فروع الجمعيات الأجنبية لنفس “إجراءات الإشعار” بالنسبة للجمعيات الوطنية باعتبار أنّ هذا الإجراء هو الأفضل امتثالا للقانون الدولي لحقوق الانسان من “إجراء التصريح المُسبق” الذي يقتضي الحصول المُسبق على موافقة السلطات لإنشاء الجمعية ككيان قانوني7. إنّ مثل هذا الإجراء يُعتبر محاولة واضحة المعالم للضّغط على المنظمات الأجنبية واخضاعها لأساليب الضغط في صورة عدم الرضا على نشاطاتها أو قراراتها. وكذلك محاولة للضغط غير المباشر على الجمعيات المحليّة بخنق مصادر التمويل في صورة قيامها بنشاط لم يرُق للجهاز التّنفيذي في الدولة. كما يتعارض حتى مع موقف الدولة التونسية بعد 25 جويلية8 بمناسبة ردّها على المراسلة الصادرة عن المُفوضية السامية لحقوق الإنسان حول طلب تقديم ملاحظات بخصوص ما ورد في البلاغ المُشترك الصّادر عن مكتب الإجراءات الخّاصة لمجلس حقوق الإنسان والمُتعلقة بفحوى مشروع تنقيح المرسوم 88 لسنة 2011، أين أشادت بضرورة المُحافظة على نظام التصريح في تكوين الجمعيات الوطنية وفروع المنظمات الدوليّة مُعتبرة إيّاه مبدأ لا يجوز التراجع عنه9
نصّ الفصل 6 على أن هذه المنظمات الأجنبيّة تخضع للرقابة والإشراف في نشاطاتها للإدارة العامة برئاسة الحكومة، وبالتالي فإنّ هذه المنظمات تخضع أيضا لسلطة الجهاز التنفيذي مثلها مثل الجمعيات. 
هذا النظام تمّ استجلابه من القانون المُنظّم للجمعيات الذي سبق المرسوم 88 10، والذي كان ينصّ في فصله 17 على أنّ تكوين أي جمعية أجنبية ونشاطها لا يُمكن أن يكون إلّا بعد تأشيرة قانونها الأساسي من طرف كاتب الدولة للداخلية مع إبداء رأي كاتب الدولة للشؤون الخارجيّة. كما يُمكن أن تُمنح هذه التأشيرة بصفة مؤقته أو أن يقع تجديدها بصفة دوريّة حسب مقتضيات الفصل 19 من نفس مقترح القانون. وهنا نستوضِحُ النزعةَ التسلطيّة التي استلهمها مقترح هذا القانون عبر رفضه لما تمّ تكريسه صلب المرسوم 88 الذي صيغت مختلف أحكامه بالروح التحرريّة التي أحدثتها ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي 2011، واستحضارِ نصّ صاغته أيادي الاستبداد والتسلّط. وهو ما نتبيّنه كذلك من خلال توسيع نطاق العقوبات في الفصل 22 من مقترح القانون ليشمل أشخاصا قد لا تكون لهم أي دراية بالمخالفات التي يمكن أن تقترفها المنظمات الأجنبية، مثل النشاط دون رخصة، إذ عادة ما يكون المشاركون في نشاط الجمعيات أو بعض المتصرفين فيها على عدم عِلْم مُسبق ببعض الإجراءات والقرارات الإدارية المُتخذة، وبالتالي فإنّ وضعهم تحت طائلة العقوبات المقررة في هذا الفصل فيه نوع من التجنّي لغياب عنصر القصد أو المشاركة في اقتراف هذه الأفعال، ما لم يكن الهدف من ذلك هو التشفيّ والانتقام منهم لمجرّد الانتماء لتلك الجمعيات وهو ما يُحيلنا إلى المُمارسات الاستبداديّة زمن حكميْ بن علي وخاصة بورقيبة، حيثُ كان النظام وقتها يُلاحق ويسجُن المُعارضين بتهمة الإنتماء لجمعيات غير مُرخّص لها للنشاط.  

نَصَّ مقترح القانون المعروض على أنظار لجنة الحقوق والحريات بمجلس نواب الشعب على أنّ النشاط صلب الجمعيات وجب أن يكون نشاطا تطوعيّا، أي دون مقابل ماديّ. وهنا لا بدّ أن نذكر أن تطور العمل في الجمعيات ليأخذ شكلا احترافيا و تقنيا يمثّل ظاهرة عالمية يمكن مناقشة إيجابياتها و سلبياتها، إلا أنّ السّعي إلى منعها تماما لا يمكن أن يندرج إلا في إطار رغبة السلطة في إضعاف و إسكات جميع الأصوات المقلقة و الناقدة لممارساتها.   

كما نطرح من جهة أخرى تساؤلا حول مدى الفهم المُسبق لما تُوفّره منظمات المجتمع المدني من مواطن شُغل وإدماج للمتخرّجين الجُدد من المؤسسات الجامعية خاصة أمام ضعف طاقة الدّولة التشغيلية ووجود العديد من القطاعات الأكاديمية على هامش رؤيتها في برامج التّشغيل. حيث يتراءى لنا هنا دور منظّمات المجتمع المدني ومساهمتها في تحقيق السلم الاجتماعي عبر إدماج خرّيجي هذه القطاعات وتوفير مواطن شغل لعدد كبير منهم في مجالاتها المختلفة. إذ رغم عدم توفر معطيات دقيقة لدى مؤسسات الدولة حول عدد العاملين والعاملات بالجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، يكفي أن نذكر عدد المنتفعين بعقود الخدمة المدنية والتطوعية لدى الجمعيات الذي بلغ 168600 بين 2011 و2019 حسب الوكالة الوطنية للتشغيل والعمل المستقل11 ليتبين لنا قدرة الجمعيات على استيعاب اليد العاملة والتخفيف من حدّة البطالة.  

تُمثّل عقود الخدمة المدنية لدى الجمعيات إحدى الآليات التي تعتمدها الدولة في سياستها المحفّزة للتشغيل (البرامج النشيطة للتشغيل) وهو ما يبرز جهل أصحاب هذا المقترح بالسياسات العمومية للدولة ويجعلنا نشك في مدى جديته. فكيف لمقترح قانون ينظم نشاط الجمعيات أن ينصّ (في فصله الثاني) على أن العمل فيها تطوعي في الوقت الذي تنظّم فيه الدولة آلية تشغيل لدى الجمعيات؟   

من ناحية أخرى، تُساهم هذه الفئة النشيطة في دعم الصناديق الاجتماعية من خلال اشتراكاتهم الشهرية، مع المساهمة في دعم ميزانية الدولة عبر دفع الضرائب وتوفير العُملة الصّعبة حيثُ قُدّر حجم التحويلات من العملة الصعبة المُتأتية من التّمويل الأجنبيّ المُقَدّم في إطار التعاون الدولي، بما لا يقل عن 68 مليون دينار سنة 2017 و78 مليون دينار سنة 201812

كما نستقي من مقترح هذا القانون إحدى المُحاولات الأخرى والمُتعدّدة للتّضيّيق على الجمعيات وضرب حريّة نشاطها في التخفيّ بتعلّة الإرهاب باعتبارها جريمة بالغة الخطورة ولها تشعبات مُعقّدة ومُركّبة، واستعمال ذلك كحجّة للضّغط والتّضييق على الجمعيات من خلال التنصيص صلب الفصل 24 من مقترح القانون على صلاحية رئاسة الحكومة في حلّ الجمعيات ذات الخلفية أو الشبهة الإرهابية بصفة آلية. وهنا نرى سطوة السلطة التنفيذية على صلاحيات السلطة القضائية واستعمال مجرد الشبهة كشرط لحل الجمعية. 
سيكون هذا الفصل بمثابة أداة للتهديد والضغط على الجمعيات التي ستحاول ممارسة دورها الرقابي بكل حرية لتصحيح أو نقد بعض السياسات الحكومية.  

علاوة على ذلك، لا وجود لأيّ حاجة تُبرّر استحداث هذا الفصل، حتى أنّ الحجة القائمة على القول بأن المرسوم 88 يساهم في تغذية الارهاب ماليا سرعان ما تتهاوى. فقد أقرت مجموعة العمل المالي الدولي في أحدث تصنيفاتها أن تونس تُعتبر من بين الدول “الممتثلة تماما” في خصوص منع تمويل الجمعيات للإرهاب وتبييض الأموال. كما أن بلادنا تُعتبرُ، وفقا لهذه التصنيفات ولتأكيد المقرر الأممي، من بين أفضل خمس تشريعيات دولية في هذا المجال. 

من جهة أخرى، فإن القانون الأساسي عدد 26 المؤرخ في 7 أوت 2015 (والّذي تم تنقيحه سنة 2019) والمتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسيل الأموال، ساري المفعول في علاقة بشبهات تمويل الجمعيات للإرهاب. كما أن الأحكام والضوابط والقيود المتعلقة بالمحاسبة العمومية ومختلف العمليات المالية تسري كذلك على الجمعيات بوصفها ذوات معنوية خاضعة للتشريع المالي والجبائي الوطني. 

حيثُ أكّدت مديرة ديوان رئيس الحكومة بمناسبة الجلسة العامّة المُخصّصة للنظر في مهمة رئاسة الحكومة في مشروع ميزانية الدولة لسنة 2024، أنّ القضاء أصدر أحكاما تتعلّق بحلّ 69 جمعيّة من جملة 266 وقع طلب تعليق نشاطها وذلك لشبهة تلقيها أموالا مشبوهة13. وهو ما يُؤكّد توفّر الآليات اللازمة صلب القوانين المُنطبقة والمرسوم 88 بخصوص الرقابة على الجمعيات ومُساءلتها وتسليط العقوبات اللازمة عليها عند الاقتضاء. 

حاول مقترح القانون إضفاء قناع زائف عبر إحداثه صلاحيةً جديدةً للجمعيات لم نر لها وجودا في السابق، وتتمثّل في صلاحيّة استصدار العرائض الشعبية والطلبات التشريعية: وهو إجراء جديد جاء به مقترح هذا القانون، إلا أنه وجب علينا أن نسُوق ملاحظة متمثلة في الشّرط التعجيزي في إصدار الطلبات التشريعية التي تستوجب جمع نصف مليون توقيع مواطن أو توقيع ألفي جمعية (2000). وهنا نطرح تساؤلا عن إمكانية بقاء هذا العدد من الجمعيات في تونس في ظلّ وجود أحكام تضييقية على نشاطها.  

يتمثّل الهدف الواضح من وراء مقترح القانون المنظِّم للجمعيات في مزيد إطلاق يد الإدارة لفرض التّضييقات على الجمعيات والمنظمات دون أن تكون هنالك أي خطة واضحة أو مُستحدثة في مقترح هذا القانون لمراقبة التمويل الأجنبي ومنع التهرب حسب السرديات المُهيمنة. بل لم تحضر سوى الأحكام المتعلقة بالتضييق والرقابة على الأنشطة ومحاولات توسيع الحق في إلغاء وجود الجمعيات أحيانا دون اللجوء إلى القضاء للفصل فيها. 

حتى أنّ التعلّل بحجّة التمويل الأجنبي وضرورة منعه استنادا إلى الادّعاء أنّ الجمعيات تستغلّ هذه الموارد لخدمة الأجندات الأجنبيّة ودعم الإرهاب هو تصوّر نابع من جهل عميق بالتشريعات الوطنيّة ومجال عمل وتدخّل الجمعيات والمنظمات في تونس. حيثُ إنّه وإلى جانب المرسوم 88 المنظم للجمعيات كنص إطاري، فإنّ مجال نشاط الجمعيات مُغطّى بعدّة قوانين أخرى مُكمّلة ومُتمّمة للمرسوم، تتمثل هذه القوانين أولا في القانون عدد 52 المؤرخ في 29 أكتوبر 2018 والمتعلق بالسجل الوطني للمؤسسات. وللتذكير، فقد تمّ سنّ هذا القانون بناء على توصيات من مجموعة العمل المالي GAFI والتي صنّفت تونس سنة 2017 ضمن القائمة السوداء للبلدان التي يُمكن أن تكون أكثر عرضة لتبييض الأموال وتمويل الارهاب. ولئن كان إدراج المؤسسات والشركات بمختلف أصنافها أمرا معقولا، فإنّ إدراج الجمعيات في هذا السجل – الذي من المفترض أن يشمل حصرا المؤسسات كما تشير تسميته – رافقه العديد من التساؤلات والرفض من قبل بعض النواب في المجلس التشريعي الأسبق ومكونات المجتمع المدني. وفي هذا التوجه نفسه، عبّر المقرر الخاص المعني بالحق في التجمع السلمي وتكوين الجمعيات حينها عن استغرابه من هذا الإدراج غير المنطقي مُؤكّدا أنّ المرسوم عدد 88 يمثل إطارً قانونيا كافيا ويستجيب للمعايير الدولية الكافلة لحرية التنظّم14.  

أمّا على المستوى المؤسساتي، يمكن تقسيم الهياكل والمؤسسات المتدخلة في النشاط الجمعياتي الى صنفين رئيسين:  

– هياكل إدارية تتمثل أساسا في الإدارة العامة للجمعيات والإدارة العامة للعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني والسجل الوطني للمؤسسات بوصفة مؤسسة عمومية غير إدارية ووزارة المالية والبنك المركزي وبالخصوص لجنة التحاليل المالية صلبه.  

– هياكل قضائية تتمثل في المحكمة الابتدائية بتونس الّتي أسند لها المرسوم 88 صلاحية حصرية تتعلق بالتنبيه والحلّ. إضافة إلى الدور الكلاسيكي للمحكمة الإدارية فيما يخصّ مختلف المسائل المتعلقة بالشأن الإداري ومحكمة المحاسبات المتخصّصة في المسائل المالية.  

من الواضح إذن أنّ الإطار القانوني والمؤسساتي لتنظيم الجمعيات في تونس يتميّز بتعدّد النصوص والهياكل وتكامل الأدوار بينها من خلال تخصّص كل هيكل في جانب مُحدّد. هذا التكامل يجعل من مختلف مراحل دورة حياة أي جمعية، تأسيسا ونشاطا ورقابة واضمحلالا – خاضعة بالضرورة الى الأحكام القانونية الخاصة بها.  
وبالتالي فإنّ أي نَقْص أو تجاوز يتمّ رصده من الأجدى أن تتمّ مُجابهته عبر تفعيل آليات الرقابة التي يُنظّمها المرسوم 88 لسنة 2011 وتحسين عمل لجنة التحاليل المالية وإدارة البنك المركزي ومزيد تدعيم لجان المراقبة برئاسة الحكومة والترفيع من عدد الموظفين صلبها، حيثُ أنّه وبالرجوع إلى مهمّة رئاسة الحكومة ضمن ميزانية الدولة لسنة 2023 نرى أنّ عدد الأعوان صلب الإدارة العامة للجمعيات والأحزاب السياسيّة هو 23 عونا، في الوقت الذي يُناهز فيه عدد الجمعيات الموجودة 20 ألف جمعيّة.15 

إنّ الهدف من مقترح هذا القانون إذن هو الرغبة الجانحة في استهداف الجمعيات وضرب لأحد الأعمدة المهمة في الرقابة والمساءلة لأعمال السلطات العمومية ولا وُجود لأيّ نيّة صادقة تهدف لحماية السيادة الوطنيّة واستقلاليّة القرار الوطني مثلما ادّعت وثيقة شرح الأسباب المُرافقة لنصّ مقترح القانون، خاصة وأنّ نفس مُموّلي الجمعيات في تونس هم مُمولون وشركاء للهياكل والمؤسسات العموميّة التابعة للدولة بهدف انجاز المشاريع في إطار التعاون الدولي. 
ويُمكن أن نُشير هنا لما جاء في مشروع قرار مجلس حقوق الإنسان في دورته الثالثة والخمسون بخصوص الحيّز المُتاح للمجتمع المدني16 ومن الطريف أنّ تونس كانت من بين مجموعة الدول التي بدأت سنة 2021 في الإشتغال على صياغة مشروع هذا القرار ومن بينها الشيلي وإيرلندا. وقد شدّد مشروع هذا القرار على العديد من النقاط في خصوص حماية الفضاء المدني، لعلّ أهمّها والذي يتناقض بصورة صريحة مع ما تمّ اقراره بمقترح القانون المتعلق بتنظيم الجمعيات، هو التشديد على ضرورة عدم فرض قيود غير مُبرّرة على تمويل الجهات الفاعلة في المجتمع المدني مع التنصيص على الحقّ في حرية تكوين الجمعيات والقدرة على المُشاركة الفعّالة والمُجدية في عمل المنظمات الوطنيّة والإقليمية والدوليّة. 
حثّ مشروع هذا القرار أيضا الدُول على ضرورة تهيئة وصون بيئة آمنة وتمكينية عبر وضع قوانين وسياسات مُلائمة، يُمكن من خلالها أن يعمل المجتمع المدني في جوّ خالٍ من العوائق وانعدام الأمن، وهو ما سيُمكّن الدُول من الوفاء بالتزاماتها وتعهداتها الدوليّة القائمة في مجال حقوق الإنسان، حيثُ أنّ غياب هذه البيئة الآمنة سينعكسُ سلبًا على قيم المُساواة والمُساءلة وسيادة القانون مع ما يُمكن أن يترتّب من آثار على الصعيد الوطني والإقليمي والدولي.17 

كما ورد في إجابة الدولة التونسية بخصوص البلاغ المشترك الصادر عن مكتب الإجراءات الخّاصة بمجلس حقوق الإنسان والمتعلقة بفحوى مشروع تنقيح المرسوم عدد 88 لسنة 2011 والمتعلق بتنظيم الجمعيّات، العديد من المُغالطات والمُخاتلات من بينها اعتبار أنّ المرسوم 88 لم ينصّ على ضرورة إعلام الكاتب العام للحكومة بالتغيّيرات التي تطرأ على الهياكل المُسيّرة للجمعيات وهو ما قد يتسبّب في عدم معرفة المُسيّرين بعد مرحلة التأسيس، كذلك الإعلام بالجلسات العامّة العاديّة والخارقة للعادّة والإنتخابيّة والإستثنائيّة إلى جانب التقارير الأدبيّة والمالية بصفة دوريّة وفقا لأنشطتها الأساسيّة. 
إلّا أنّ الفصل 16 من المرسوم 88 فرض ضرورة أن يُعلم مُسيّرو الجمعية الكاتب العام للحكومة عن طريق مكتوب مضمون الوصول مع الإعلام بالبلوغ بكلّ تنقيح أُدخل على نظامها الأساسي في اجل أقصاه شهر من تاريخ اتخاذ قرار التنقيح ويقع إعلام العموم بهذا التنقيح عبر وسائل الإعلام المكتوبة وعبر الموقع الإلكتروني للجمعية إن وُجد. كما أنّ الباب السابع من المرسوم ضبط في العديد من الفصول اجراءات وآليات مراقبة موارد الجمعيات وحساباتها على أن تُرفع تقارير الحسابات المُنجزة من قبل مُراقب الحسابات إلى الكاتب العام للحكومة. كما تمّ التنصيص على ضرورة أن تحتفظ الجمعية بوثائقها وسجلاتها المالية لمدّة عشر سنوات، وهو ما يضمن بقاء الأثر لتتسنى امكانية التتبّع حتى بعد مرور عديد السنوات. وهو ما يدحضُ الإدّعاء القائم على أنّ المرسوم 88 يفتقرُ إلى آليات الرقابة اللازمة على مُستوى التكوين والنشاط والموارد الماليّة. 

سياق سياسي مُلائم للمرور بقوة 

دون مبالغة، يُعتبر مرسوم 88 المُنظّم للجمعيات أكثر نص قانوني عرف مُحاولات مُتعدّدة لإعادة النظر فيه منذ سنة 2016. غير أنّ ما يُميّز هذه المُحاولة هو السياق الذي تتنزل فيه، إذ لا يُمكن فهم التغييرات الجذرية المقترحة دون تنزيلها في سياقها السياسي 

تعيش البلاد منذ 25 جويلية 2021 إلى حدود اليوم حالة من العبث القانوني والسياسي، فبعد المرور بقوة واستعمال الفصل 80 في غير محله لتجميد البرلمان المنتخب ثمّ تعليق العمل بالدستور بموجب الأمر 117 من قبل من أقسم على احترامه، لا يمكن اعتبار وضع دستور جديد وعقد انتخابات تشريعية خروجا من حالة “الاستثناء” حيث واصل قيس سعيّد نسف جلّ مكتسبات البناء الديمقراطي من هيئات مستقلة سواء عبر إلغائها بالقوّة أو ضرب استقلاليتها من خلال تغيير تركيبتها بأشخاص مُوالين له. 
 
وفي هذا الإطار يُمكن أن نستعرض بعضا من إجراءات النّسف والإلغاء التي قام بها رئيس الجمهورية، حيثُ وإثر تجميده ثم حلّه للمؤسسة التشريعية المنتخبة، تولى إلغاء نشاط الهيئة الوطنية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، ثم حلّ الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد يليها حلّ المجلس الأعلى للقضاء وتعويضه بمجلس مؤقّت تولى بنفسه تعيين تركيبته وإصدار النصّ القانوني المُنظّم له، إضافة الى التغيير الجذري لتركيبة مجلس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الذي أفقدها “استقلاليتها”. 
 
إنّ هذه الخطوات تعكس إرادة رئيس الجمهورية في القطع الأعمى والجذري مع ركائز المشهد الدستوري والمؤسساتي القائم منذ سنة 2014 (أو حتى قبله في ما يتعلق بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات)، وهو تمشّ ما انفك يتأكد شيئا فشيئا خاصة في علاقة مع السلط المضادة مهما اختلفت طبيعتها (دستورية، عمومية، قضائية) والأجسام الوسيطة (جمعيات، إعلام، أحزاب سياسيّة…) الواقعة تحت وطأة الترهيب والتشويه المُمنهج من قبل الرئيس، حيثُ نراه لا يُفوّت أي مناسبة للتعريج عليها ليصمها بمختلف عبارات التخوين والعمالة وتحميلها الفشل السابق وحتى اللاحق الناتج عن سياساته الفردانيّة. حالة المواجهة المباشرة تلك بين السلطة السياسية والمجتمع المدني تُؤدي في غالب الأحيان إلى تغلّب أحدهما على الآخر، لكنّها لا تُؤدي مطلقا إلى تغلّب الديمقراطيّة18
 
في هذا الإطار العام، يمكن لنا فهم النظرة العدوانية تجاه المجتمع المدني حيثُ وصف رئيس الجمهورية الناشطين.ات فيه في خطاباته بأنهم ” عملاء” يرتمون في “أحضان الخارج ” لأنهم ” امتداد لقوى خارجية “. فالرئيس ماض في مشروعه الذي يحمله منذ الثورة والقائم على هدم كل ما هو قائم دون أي محاولة للتقييم الموضوعي بهدف تثمين الايجابيات وتجاوز النقائص والحدود. فاعتقاده راسخ وجازم بفساد كامل المنظومة السابقة له، بل وأنّ الضرورة التاريخيّة والشرعيّة تكمُن في الهدم وإعادة البناء حسب إرادته الفردانيّة ورغبته في دخول التاريخ.  

 
وبالرغم من إمكانية التحاجج بأنّ هذا المقترح عُرض من طرف عدد من النواب الذين تمّ انتخابهم من قبل الشعب ومناقشته داخل المُؤسسة التشريعيّة، وبالتالي فإنّ مُرور هذا المقترح والمُصادقة عليه بعد نقاشه صلب اللجنة المعنية بالنظر وصلب الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب سيجعل منه قانونا يكتسي نوعا من المشروعيّة، 
إلّا أن برلمان الرئيس بصيغته الحالية لن يعدُو أن يكون أكثر من مكتب للتأشير بالقبول على قرارات السلطة التنفيذية الخاضعة لأهواء وتصوّرات رئيس الجمهورية. بل إنّ عقول جلّ “الوظائف الدستوريّة” تشتغل ضمن أطر براديغمات السلطة العليا في البلاد. حيثُ نلتمسُ من عبارات مقترح قانون تنظيم الجمعيات بصمة الرئيس ونفسه العُدواني السّاعي وراء إلغاء الأجسام الوسيطة والعودة بالحياة السياسية إلى طور الدولة الأوليّة التي ارتبطت بالشكل النّطفي المُبكّر جدّا للعقد الاجتماعي الذي يسعى إلى تحويل الشعب إلى ما يُشبه الوحدة السياديّة بين يديْ القائد ورهن تصرّف عقله السياسي19. وهذا ما يتراءى لنا واقعيّا من خلال ترجمة خطابات الشيطنة التي شنّها الرئيس على منظمات المجتمع المدني في العديد من المناسبات لعلّ أهمّها تعامله العنصري ضدّ المهاجرين.ات الأفارقة -جنوب الصحراء واتّهام الجمعيات المُدافعة عن حقوقهم وكرامتهم الإنسانية بخدمتها لأجندات خفيّة تسعى إلى دعم توافدهم بهدف تغيير التركيبة الديمغرافية للشعب التونسي، في تبنّ واضح لأطروحات أقصى اليمين الأوروبي العنصرية، و جهل كامل بالتركيبات الديمغرافيّة التاريخية لسكّان شمال إفريقيا وتجاهل لأدنى ركائز حقوق الانسان في أبعادها الكونيّة والشمولية. 
 
إنّ نقطة الالتقاء الوحيدة بين المرسوم عدد 88 ومقترح القانون المعروض على أنظار برلمان قيس سعيد هو ترجمتهما للسياق الذي تنزّلا فيه، نفس تحرّري للأول، وتمشّ تسلطي للثاني. وهو ما يعكسُ عموما الفرق بين السياقين السياسيين، سياق ديمقراطي وتشاركي وسياق استبدادي وشعبوي.



  1. مرسوم عدد 88 لسنة 2011 مؤرخ في 24 سبتمبر 2011 يتعلّق بتنظيم الجمعيات ↩︎
  2. قانون عدد 154 لسنة 1959 مؤرخ في 7 نوفمبر 1959 يتعلق بالجمعيات. وقد تمّ تنقيح هذا القانون في مناسبتين: 
    الأولى بمقتضى القانون الأساسي عدد 90 لسنة 1988 المؤرخ في 2 أوت 1988. والثاني بمقتضى القانون الأساسي عدد 25 لسنة 1992.  ↩︎
  3. Hafidha Chekir : L’importance et les acquis du décret-loi 88 : Emancipation de la liberté de constituer des associations. PCPA-Soyons Actifs/Actives (2017). ↩︎
  4. مقترح قانون أساسي عدد 027/2023 يتعلق بتنظيم الجمعيات. ↩︎


5  تقرير المقرر الخاص المعني بالحق في حرية التجمع السلمي والحق في حرية تكوين الجمعيات، ماينا كياي، الأمم المتحدة – الجمعية العامة، صفحة 18 – 25. 

6 حافظ مقترح القانون شكليا على نظام التصريح إلا أن الإجراءات التي فرضها تجعله نظام ترخيص مقنع 

7 Rapport du Rapporteur spécial sur le droit de réunion pacifique et la liberté d’association, MAINA KIAI, Conseil des droits de l’homme, Vingtième session, page 16.

8 إجابة الدولة التونسية حول البلاغ المشترك AL TUN 4/2022 المؤرخ في 19 أفريل 2022 والصادر عن مكتب الإجراءات الخاصّة بمجلس حقوق الإنسان، صفحة 9.

9 Mission permanente de la République tunisienne à Genève : Réponse de l’Etat tunisien à la communication conjointe AL TUN 4/2022 du 19 avril 2022 émanant du bureau des procédures spéciales du Conseil des droits de l’homme, Page 5

10 القانون عدد 154 لسنة 1959 مؤرخ في 7 نوفمبر 1959 يتعلق بالجمعيات، الفصل 17: “لا يُمكن لأيّ جمعيّة أحنبية أن تتكوّن أو تقوم بأيّ نشاط بالبلاد التونسيّة إلّا بعد تأشيرة قانونها الأساسي من طرف كاتب الدولة للداخليّة وإبداء رأي كاتب الدولة للشؤون الخارجيّة.” 

11 التقرير السنوي لنشاط الوكالة الوطنية للتشغيل والعمل المستقل (2019) 

12  أنظر تقرير محكمة المحاسبات لسنة 2021. 

13 إذاعة موزاييك أف أم- مقال صادر بتاريخ 20 نوفمبر 2023: مديرة ديوان رئيس الحكومة: تحديد 272 جمعية مشبوهة.  

14  Hafidha Chekir, Projet de loi sur les associations, lecture critique, Nawaat, 15/02/2022. 

15  ميزانية الدولة لسنة 2023، مهمّة رئاسة الحكومة، صفحة 80. 

16 Human Rights Council, 53 session, 19 June – 14 July 2023, Agenda item 3, Promotion and protection of all human rights; civil; political; economic; social and cultural rights; including the right to development, Civil society space A/HRC/53/L.13.

17 مرجع سبق ذكره، صفحة 3. 

18  ألان توران، ماهي الديمقراطية؟ حكم الأغلبيّة أم ضمانات الأقليّة، ترجمة حسن قبيسي، دار السّاقي، الطبعة الثالثة، بيروت 2016، صفحة 60. 

19  المولدي قسّومي، الصّراع السياسي في تونس زمن الانتقال الجمهوري، منشورات دار محمد علي الحامي، الطبعة الأولى 2023، صفحة 574. 

]]>
https://www.albawsala.com/en/publications/20235899/feed 0
تقسيم الأقاليم: اختزال انتخابي ضيق لتحديات تنموية عميقة https://www.albawsala.com/en/publications/articles/20235846 https://www.albawsala.com/en/publications/articles/20235846#respond Fri, 13 Oct 2023 17:08:09 +0000 https://www.albawsala.com/?p=5838
Loader Loading…
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [489.55 KB]

]]>
https://www.albawsala.com/en/publications/articles/20235846/feed 0
March 8th decrees: destroying the last democratically elected authority for the sake of Kais Said’s populist project https://www.albawsala.com/en/publications/articles/20235775 https://www.albawsala.com/en/publications/articles/20235775#respond Fri, 28 Jul 2023 10:17:47 +0000 https://www.albawsala.com/?p=5775
Loader Loading…
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [540.69 KB]

]]>
https://www.albawsala.com/en/publications/articles/20235775/feed 0
100 يوم منذ تنصيب مجلس نواب قيس سعيد: غياب للشفافية وحصيلة هزيلة https://www.albawsala.com/en/publications/articles/20235746 https://www.albawsala.com/en/publications/articles/20235746#respond Mon, 03 Jul 2023 16:31:12 +0000 https://www.albawsala.com/?p=5735
Loader Loading…
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [386.68 KB]

]]>
https://www.albawsala.com/en/publications/articles/20235746/feed 0
قراءة أولية في مراسيم 8 مارس 2023: قتل المواطنة باسم البناء القاعدي https://www.albawsala.com/en/publications/20235711 https://www.albawsala.com/en/publications/20235711#respond Fri, 31 Mar 2023 14:25:19 +0000 https://www.albawsala.com/?p=5700
Loader Loading…
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [553.49 KB]

]]>
https://www.albawsala.com/en/publications/20235711/feed 0
قانون الماليّة 2023: أيّ مشروعيّة لقانون اللّحظات الأخيرة؟ https://www.albawsala.com/en/publications/articles/20235616 https://www.albawsala.com/en/publications/articles/20235616#respond Wed, 04 Jan 2023 10:18:38 +0000 https://www.albawsala.com/?p=5607
Loader Loading…
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [1.12 MB]

]]>
https://www.albawsala.com/en/publications/articles/20235616/feed 0