المجالس “المحلية” وسراب التنمية

6 سبتمبر 2024

مقدمة

تمّ يوم 1 جوان 2024 إجراء عملية القرعة الدورية لتجديد تركيبة المجالس الجهوية ورئاسة المجالس المحلية والجهوية وبذلك أكمل 279 عضو مجلس جهوي فترة عضويتهم المحدّدة بثلاثة أشهر وعادوا لمجالسهم “المحلية” دون أي قانون ينظّم صلاحيات هذه المجالس وعلاقتها مع باقي الهياكل اللامحورية واللامركزية. ومن المتوقع إجراء القرعة الموالية يوم 1 سبتمبر ليمرّ نصف عام منذ تنصيب هذه المجالس دون نص قانوني قد يمكّنها من لعب أي دور مفترض.

وتمثّل هذه القرعة إحدى الإجراءات المترتبة عن مراسيم 8 مارس 2023 التي حلّ بموجبها الرئيس قيس سعيد المجالس البلدية المنتخبة شهرين أو ثلاثة قبل انتهاء عهدتها وثلاثة أيام قبل انعقاد الجلسة الافتتاحية لبرلمانه، والتي وضع من خلالها تركيبة المجالس المحلية والجهوية ومجالس الأقاليم والمجلس الوطني للجهات والأقاليم التي تمثّل جوهر مشروع “بنائه القاعدي”1.

إلى حدّ كتابة هذه السطور، اكتفى الرئيس قيس سعيد واضع هذه الهندسة التي لا دور لها باستثناء تحقيق مشروعه الشخصي بالقول في أحد المناسبات النادرة التي أجاب فيها على سؤال صحفي “أنه يجب استنباط القوانين المنظمة لها2” كما هو الحال بالنسبة للنص المنظم للعلاقة بين غرفتي برلمانه. وقد حرصت هيئة الانتخابات على التأكيد أن المجالس المحلية لها دور تنموي دون أن تقدر على تبيان طبيعة هذا الدور التنموي المفترض زيادة على أن تحديد اختصاصات المؤسسات هي من دور المشرّع لا الهيئة.

بعد أن قدمت منظمة البوصلة قراءتها للإشكاليات الانتخابية والقانونية التي عرفها مسار تركيز هذه المجالس المحلية3، تهدف هذه الورقة إلى إبراز المغالطات المتعلقة بالدور “التنموي” المزعوم لهذه المجالس التي إضافة لافتقادها للتمثيلية الكافية ولانتخابها بعد مسار لا قانوني فردي، تفتقد لإمكانية لعب أي دور تنموي حقيقي عكس الشعارات التي ترفعها السلطة ومناصروها.

عناصر نظرية وتاريخية للحوكمة الجهوية في تونس4

في مفهوم الجهة

بعد أن مثل ظهور الدولة القومية وتثبيتها أولويّة القرون الثلاثة الماضية، استأثرت الجهة بالاهتمام بداية من القرن العشرين وتعتبر مسألة معقدة وحساسة. يمكن اعتبارها معقدة من الناحية المفهومية لشموليتها وارتباطها بعديد الأبعاد (ديمغرافية، اجتماعية، اقتصادية، سياسية…) ما يعسّر مهمة التفكّر فيها وإنفاذها. كما تعتبر حساسة لكونها مسألة سياسية بالأساس قبل أن تكون اقتصادية أو إدارية تتعلق بتقسيم ترابي مجالي فحسب وهو ما يتبيّن بوضوح في الحالة التونسية (انظر الجزء الأول من هذا التقرير).

من الناحية المفهومية، تهمّنا الجهة في نطاق عملنا كبناء اجتماعي-مجالي يعرّف كوحدة جغرافية دون وطنية تتميّز بفردانية من حيث عناصرها (الطبيعة/التاريخ) أو كبناء سياسي. في كل الحالات تعتبر الجهة بناء ماضيا (جغرافي تاريخي)، حاضرا (اقتصادي سياسي) أو في طور التشكّل في نطاق مشروع تنموي إرادوي لتنظيم المجال5

عند غياب الجهة، يتمّ إحداثها من قبل السلطة المركزية كوسيلة لإدارة السلطة مجاليا وإعادة التوزيع الاقتصادي والاجتماعي. في هذه الحالة يتم التفكير في المسألة الجهوية على المستوى الوطني مع التركيز على توزيع الأنشطة الاقتصادية أو كمحاولة لمواجهة الضغط الناجم عن أزمات جهوية وهو ما كان مطروحا في تونس في السنوات الأخيرة. يمكن القول إن اللامركزية هي التجسيد المؤسساتي لمفهوم الجهة أو الأقلمة وتكمن أهميتها في الفرصة الذهبية التي أتاحتها للبلاد لإعادة التفكير في تنظيمها للمجال.

إن المؤشرات التي تخصّ الأقلمة كانت تشير إلى أنها ممكنة، بل ضرورية. تعتبر عملية بهذا الحجم صعبة التطبيق نظرا للموارد التي تتطلبها ولرهاناتها الكثيرة ويشير المختصون إلى أنها لا تكون ممكنة إلا إذا كان البلد المعني في طور انتقالي وهو ما ميّز تونس منذ الثمانينات: (متوسط الدخل للفرد، التوسع الحضري بنسبة 69 %، ارتفاع نسبة التمدرس ونسبة الشهادات العليا، ارتفاع العمالة الصناعية).

سياسة مجالية غير فعالة وتعميق الهوّة المجالية

تاريخيا، كان يشق تونس اختلال بين الشمال والجنوب لأسباب طبيعية وتاريخية ويظهر هذا التباين بين الشمال الرطب والجنوب القاحل بوضوح في التقرير الاقتصادي للاتحاد العام التونسي للشغل في 1956 وفي وثيقة الآفاق العشرية للتنمية (1961). بعد الاستقلال، تمظهر تميّز النشاط الاقتصادي العصري ببروز محور ساحلي متكون من مدن مثل صفاقس، سوسة وقابس عبر الاستثمار العمومي أولا ثم الخاص فيما بعد (المرحلة الأولى من سياسات التنمية: 1960-1971). استمر هذا الشريط الساحلي في التطوّر رغم المحاولات المحتشمة لإعادة التوازن منذ الستينات وخاصة في السبعينات مع التوجه نحو الصناعات التصديرية (قانون 1972 والمرحلة الثانية من سياسات التنمية6). وحتى خلال المرحلة الثالثة من التنمية 1986 بداية من الثمانينات والتسعينات خاصة تحت تأثير برنامج الإصلاح الهيكلي 1986 تمّ كذلك تعزيز دور السواحل بإحداث المناطق الحرة ببنزرت وجرجيس، ميناء قابس وجرجيس وتطوير المنطقة السياحية بالحمامات. حيث اعتمدت الدولة على سياسة ليبرالية تهدف إلى تطوير نسيج اقتصادي أكثر اندماجا في السوق العالمية مع إعطاء الأولوية للتصدير في إطار اتفاقيات التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي والحدّ التدريجي لتدخل الدولة في الدورة الاقتصادية.

أبقت الدولة التونسية بعد الاستقلال على ثنائية المراقبة والتحكم في علاقتها بالجهات الداخلية ولم تول اهتماما حقيقيا لتنظيم المجال إلا بداية من سنة 1979 عندما أدخلت مجلة التخطيط العمراني مفهوم “المخططات التوجيهية العمرانية” إلا أنها لم تورد العلاقة بين التهيئة الترابية والعمرانية من جهة والتخطيط الاجتماعي والاقتصادي من جهة أخرى7 وتجلى هذا الخيار أيضا في قانون التهيئة الترابية سنة 1994 الذي استثنى صراحة الأهداف الاقتصادية والاجتماعية من التهيئة الترابية.

يمكن القول إن سياسة الدولة لتنظيم المجال أو للتنمية الجهوية لم تكن تنموية فعلا نظرا لأنها اقتصرت في أهدافها على التنمية الحضرية والعمرانية في محاولة للتحكم في نسق نمو وهجرة السكان في حين أهملت البعدين الاقتصادي والاجتماعي. هذا إلى جانب الإبقاء على الطابع المركزي لكل السياسات وهو ما نلاحظه في المخططات التوجيهية العمرانية (1979) والمثال التوجيهي للتهيئة الترابية الوطنية (1996)8 كما أنها فصلت منهجيا بين المؤسسات المكلفة بإنجاز التصورات وبين وظيفة إنجاز التصورات ما قلّص من فاعلية المخططات ومدى تطبيقها على أرض الواقع9.

من ناحية أخرى يشير المختصون إلى أن التقسيم المعتمد في مخططات التنمية لم يكن يخضع لأي مرتكزات علميّة، بل كان مجرّد تقسيم منهجي شكلي لإنجاز هذه المخططات أو لهيكلة الإدارات والمصالح الجهوية والقيام بالإحصائيات الرسمية. كما أن الأقاليم المعتمدة من قبل الدولة في مختلف مصالحها التقنية (بنية تحتية، تقسيم الإدارات الجهوية للوزارات والشركات العمومية، الوكالات العمومية) لم تكن متطابقة أو حتى متناسقة، فمدينة القصرين مثلا تتبع الكاف، قفصة، القيروان أو صفاقس حسب الحالة. 

على المستوى الاقتصادي، اتبعت الدولة سياسة تشجيع القطاع الخاص حتى يكون قاطرة للتنمية المحلية عبر تحفيزات جبائية ومالية كبرى والتي تراوحت تكلفتها حسب دراسة للبنك العالمي10 بين 354 و1155 مليون دينار بين 2002 و2011 وهي مستويات هائلة بلغت على سبيل المثال في سنة 2008 نسبة 3% من الناتج الداخلي الخام.

إلا أن هذه السياسة أظهرت فشلها في دفع التنمية في الجهات الداخلية، على سبيل المثال، لم تتجاوز حصّة الجهات الداخلية من الاستثمارات الصناعية أثناء الفترة الممتدة بين 1994 و2011 نسبة 17% في حين تركز الجزء الأساسي منها (84%) في الشريط الساحلي الشرقي على المحور الممتد من بنزرت إلى صفاقس، دون أن تسجّل أي جهة تأثيرا إيجابيا على الولايات المحيطة بها باستثناء العاصمة تونس نسبيا11. وهو ما يؤكّد ما أثبتته الدراسات12 التي بينت عدم نجاعة سياسة التحفيزات لتحقيق التنمية الجهوية وأنّ الحدّ من اللامساواة بين الجهات يمرّ أساسا عبر تطوير البنية التحتية المادية والاجتماعية أي على الانفاق العمومي للدولة كقاطرة للتنمية.

هكذا تسبّبت سياسة التنمية المُعتمدة مُنذ الاستقلال، في مزيد تعميق التفاوت الجهوي بين المناطق وتهميش الجهات الداخلية لصالح بعض المُدن الساحلية نتيجة سياسات قاصرة وغير عادلة قامت على منطق جهوي بحت وجدت بعض التبريرات الاقتصادوية في خطاب الانفتاح القائم على شعارات التصدير للأسواق الأوربية والسياحة كسبيل وحيد للتنمية. فيما اقتصر دور الجهات الداخلية على توفير المواد المنجمية والفلاحية والمائية للدولة في شكل شُبّه بالاستعمار الداخلي13 وهو ما غذّى الشُعور بالإقصاء والتهميش لدى سكان المناطق الداخليّة ودفعهم إلى رفض السياسات المُعتمدة والثورة عليها.

اللامركزية والأقلمة كضرورة تنموية ومطلب شعبي

إن الأقلمة هي خيار سياسي يهمّ تقاسم السلطات والديمقراطية وحوكمة المجال والموارد التي يتمّ تحويلها للجهات كفاعل اقتصادي وسياسي فتمثل بذلك الأرضيّة التي يتم استخدامها للبنية التحتية والمشاريع الوطنية14. تسمح الأقلمة بتحقيق التناغم في سياسات التنمية بين الجهات والتراب الوطني كما تعبّر الجهة عن إرادة الجماعات المحلية وتسمح بلامركزية القرار والموارد ما يعزز قيمة المواطنة والمشاركة السياسية. ويمكن لمشروع لامركزي حقيقي أن يعيد النظر في الشبكات الحضرية للبلاد حيث باستثناء العاصمة تونس وعلاقتها بالمدن المجاورة لم تبلغ مدن كبرى أخرى كصفاقس وسوسة مرتبة المدينة الجهوية المتكاملة بما يقتضيه ذلك من ارتباط وخدمات جهوية للأفراد والفاعلين الاقتصاديين دون الحديث عن باقي المدن التونسية.

هكذا تمكّن الأقلمة من تحقيق التنمية المحلية في معناها الأشمل وهو البناء المشترك بين المؤسسة (أيا كان شكلها وطبيعة نشاطها) ومجالها الترابي اللامحروي (الولاية، المعتمدية والعمادة) واللامركزي (البلديات، الجهات والأقاليم) أين يوفر المجال الترابي للمؤسسة الأرض والموارد الطبيعية والبنية التحتية وقوى الإنتاج وفي المقابل تقدم المؤسسة للمجال الترابي الثروة من منتجات وخدمات وشغل وباقي الخدمات المتعلقة بمسؤوليتها الاجتماعية والبيئية15.

على المستوى القانوني تمثّل اللامركزية تنظيما للصلاحيات داخل السلطة التنفيذية يقوم على تفويض صلاحيات للجماعات المحلية تمارسها حسب مبدأ التدبير الحرّ. على المستوى الجغرافي، تمثل اللامركزية تجسيد مؤسساتيا وديمقراطيا للأقلمة16 وتعتبر أحد أوجه الاستجابة لهذه الضرورة الاقتصادية والتنموية. وقد أكّد المختصون على أن غياب الجهات كجماعات محلية تتمتع بالصفة القانونية في تاريخ تونس منذ الاستقلال كان عائقا أمام التنمية ما جعلهم يثمنون التنصيص عليها في الباب السابع من الدستور (2014). 

مثّلت مطالب الثورة التونسية فرصة حقيقيّة للتوجّه نحو وضع أولى مُحاولات الأقلمة (régionalisation) التي تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، وذلك بعد التحوّل الذي شهدته الإرادة السياسية والرأي العام التي أقرّ بوضوح بفشل المنوال التنموي السابق خاصة في علاقة بالتنمية المحلية. فقابل هذا التحول تطوّر الإطار القانوني والسياسي في اتجاه تفعيل مطالب الثورة وتقليص اللامساواة بين الجهات17

كانت أولى تمظهرات هذا التحوّل إقرار الدولة التونسية في قانون العدالة الانتقالية (الفصل العاشر من القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013) في فصله العاشر أنّ “الضحية هي كلّ من لحقه الضرر سواء كان فرداً أو جماعة أو شخصاً معنوياً” نصّ على أنّ “هذا التعريف يشمل كل منطقة تعرضت للتهميش والاقصاء الممنهج”. قبل أن يتأكّد هذا التوجّه في مضمون دستور 2014 الذي أقرّ التمييز الايجابي لبعض الجهات الداخلية بناء على ما عانته وتعانيه من تهميش وفقر وبطالة، حيث نصّ على “أنّ الدولة تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة […]، اعتمادا على مبدأ التمييز الإيجابي” إضافة إلى اعتماد اللامركزية وتخصيص باب كامل للسلطة المحلية (الباب السابع). 


كان دستور 2014 إذن إطارا للإعلان عن خيار الدولة في التوجّه نحو حكم محليّ لا مركزي تُعطى من خلاله سلطة أوسع للمحليات في الإعداد والتخطيط لمشاريع التنمية بشكل تشاركي حيثُ منحها بابه السابع مبدأيْ التدبير الحرّ في إدارتها للمصالح المحليّة واستقلاليتها الإدارية والماليّة عن السلطة المركزيّة.

على مستوى السياسات التنموية المعتمدة بعد الثورة، تمّ خلال فترة 2011-2015 اعتماد قاعدة 30-70 لتوزيع الاعتمادات المخصصة للبرامج الجهوية بين المناطق الساحلية والداخلية إضافة إلى المخطط التنموي 2016-2020 تطبيقا لمبدأ التمييز الإيجابي. إلا أن هدف التوازن بين الجهات لم يتحقق مثلما يظهره مؤشر التنمية الجهوية الذي انخفض معدله الوطني من 0,502 سنة 2015 إلى 0,462 سنة 2021. من ناحية أخرى لا تزال نسب هذا المؤشر تسجّل تفاوتا كبيرا بين الولايات الساحلية والداخلية، ورغم أن المخطط الوطني للتنمية 2016-2020 حدّد هدف تقليصه ب30% فلم يتمّ تحقيق سوى نسبة 3% 18. ويظهر المؤشر ضعف الاستثمار الخاص مقارنة بالاستثمار العمومي في الجهات الداخلية التي لم تنجح في تحقيق الجاذبية الاقتصادية والسكنية إذ تركّزت قرابة 64% من الاستثمارات الجملية الخاصة خلال الفترة الممتدة بين 2016 و2023 بـ8 ولايات ساحلية (المنستير ونابـل وتونـس وبـن عـروس وسوسـة وصفاقـس وبـنزرت والمهدية).

مؤشر التنمية الجهوية201520182021
المعدل الوطني0,5020,4840,462
أعلى مؤشر0,6280,5930,578
أدنى مؤشر0,4020,3890,359
الفارق بين أعلى وأدنى مؤشر23%20%22%
جدول: تطور مؤشر التنمية الجهوية (2015،2018، 2021)
المصدر: الملحق عدد 11 لميزانية 2024 – وزارة المالية

أي مكانة للتنمية المحلية في سياسات سلطة 25 جويلية؟

أمام هذا الواقع، يفترض المنطق السليم أن تستكمل الدولة تفعيل الخطة الوطنية للتنمية والتي تحتوي على محور كامل يخصّ التنمية الجهوية في الوثيقة التوجيهية العشرية تونس 203519 والتي تنعكس في مخطط التنمية 2023-2025 20 أين نجد من بين الأهداف الوطنية استكمال دعم مسار اللامركزية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني. إلا أن سلطة 25 جويلية أثبتت أكثر من مرة أن هوس “التأسيس” و”دخول التاريخ” يجعلها لا تعترف باستمرارية الدولة فاختارت نسف مسار اللامركزية واستغلال المراسيم لتنزيل مشروع البناء القاعدي المبهم كما خيّرت وضع الشركات الأهلية التي أخصّتها بكتابة دولة ونقلت إليها جميع الإمكانيات والإدارات التي كانت مكلفة بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني داخل وزارة الاقتصاد والتخطيط عوض استكمال النصوص الترتيبية لهذا القانون المهمّ.

حتى يتسنى لنا تقديم قراءة للوضع التنموي، من الضروري التطرق لوضع المؤسسات -التاريخية- المتدخلة في الشأن المحلي وأهمّها البلديات قبل المرور للمؤسسات المُحدثة بسلطة المراسيم.

تقويض السلطة المحلية وحلّ المجالس البلدية المنتخبة

غداة 25 جويلية 2021، كانت البلديات السلطة الوحيدة المنتخبة مباشرة من قبل الشعب والتي لم تلحقها قرارات تجميد أو إعفاء أو “ترؤّس” من رئيس الجمهورية قيس سعيّد. حيث لم تتعدَّ تدابيره في شانها، تعطيل العمل لمدّة يومين. وهو ما جعلها تتخبط من حيث قراءتها للمشهد السياسي ولم تستقرئ بالوجه المطلوب تبعات هذا التاريخ على مستقبلها ومستقبل المسار اللامركزي عموما.

فلئن بقيت البلديات موجودة الى حين حلّها من قبل سعيّد في مارس 2023، فإنّ نسف السلطة المحلية قد انطلق فعليا منذ جويلية 2021. حيث لم يخف الرئيس امتعاضه من أداء البلديات ولم يتردد في توجيه أصابع الاتهام إلى المنتخبين المحليين في تعطيل حلحلة أزمة النفايات خاصة في صفاقس. ليقوم لاحقا بحذف وزارة الشؤون المحلية من حكومة نجلاء بودن وإدخال اخر سلطة منتخبة في البلاد بيت الطاعة عبر إلحاق ملف الجماعات المحلية بوزارة الداخلية. تواصلت المؤشرات السلبية في علاقة بالسلطة المحليّة لتتوج بالاستفتاء على دستور 2022. دستور ممنوح من الرئيس، نسف بجرّة قلم ودون أي تداول أو نقاش حول خياراته، السلطة المحلية وما تبقى من مكاسب الانتقال الديمقراطي. كان نسف السلطة المحليّة كذلك تدريجيا، حيث انطلق بتاريخ 25 جويلية 2021، لينتهي يوم 8 مارس 2023 من خلال مرسوم حلّ المجالس البلدية وتعهيد الكتاب العامّين بمهمة تسيير البلديات، تحت إشراف الولاّة21. كما تمّ بنفس التاريخ إصدار مرسومين آخرين وضعا تركيبة المجالس المحلية والجهوية ومجالس الأقاليم والمجلس الوطني للجهات والأقاليم (المرسوم عدد 10) ولتنقيح القانون الانتخابي (المرسوم عدد 8) واستغل بذلك قيس سعيد آخر أيام “القترة الاستثنائية” والتشريع بالمراسيم لوضع التجسيد التشريعي لبناءه القاعدي بعد أشهر من المواربة والتضليل. وقد نبهت منظمة البوصلة إلى الإشكاليات القانونية والسياسية المتضمنة بمراسيم 8 مارس22 والتي يمكن تلخيصها في غياب الصلاحيات وآليات التحكيم بين هذه المجالس وشروط الترشّح الإقصائية والماراثون الانتخابي المنتظر بسبب العدد الكبير للدوائر الانتخابية واعتماد القرعة كل 3 أشهر على امتداد مدة عمل المجالس.

إن حل المجالس البلدية المنتخبة بحجة فشلها أو انتخابها على أساس المال السياسي الفاسد يكشف استصغارا للتونسيين.ات حيث لا يعتبر قيس سعيد أصواتهم المدلاة خلال الانتخابات البلدية تعبيرا عن الإرادة الشعبية في حين أنها تمت تحت إشراف نفس هيئة الانتخابات التي نظمت الانتخابات الرئاسية التي فاز بها ورغم أن نسبة المشاركة فيها تقارب ثلاثة أضعاف المشاركين في الانتخابات “المحلية” التي أجراها. ويجسّد هذا الخطاب بشكل واضح “الحدود المتحركة” لمفهوم الشعب23 لدى القائد الشعبوي الذي يعتبر نفسه الممثّل الحصري له مهما كانت النسبة الانتخابية لهذا التمثيل السياسي (في الحالة التونسية من 600 ألف صوت في الدور الأول للانتخابات الرئاسية إلى ال10% من المصوّتين في انتخاباته التشريعية مرورا ب2,6 مليون صوت في الاستفتاء دون أي تمييز او تحليل).

انتخابات المجالس المحلية: تنزيل “نبوّة” البناء القاعدي

بعد إصدار مراسيم 8 مارس 2023، مرت أشهر عديدة تكتّمت فيها السلطة على تاريخ الانتخابات “المحلية” -ما دفع هيئة الانتخابات إلى محاولات الاستباق والتخمين-، ولم يقع خلالها تلافي الإشكاليات القانونية المتعلقة بصلاحيات واختصاصات هذه المجالس حيث اكتفى قيس سعيد باستكمال الخطوات الشكلية لانعقاد هذه الانتخابات وهي استكمال تركيبة هيئة الانتخابات التي عرفت استقالات أفقدتها النصاب القانوني اللازم لاتخاذ قرارتها، وإصدار أمر تقسيم الأقاليم24 قبل أن يصدر أمر دعوة الناخبين للمشاركة في الانتخابات المحلية يوم 24 ديسمبر 2023. وبهذا شهدنا حملة انتخابية لمترشحين يجهلون صلاحيات المجالس الذين سيشكلونها.

كما كان متوقعا، ورغم كل الخطوات المتخذة من هيئة الانتخابات كالعدد المهول من الإرساليات القصيرة للمواطنين.ات والتي بلغت حدّ الهرسلة أو التسجيل الآلي للناخبين والتمديد في أوقات عمل مكاتب الاقتراع مقارنة بانتخابات ما قبل 25 جويلية 2021، سجّلت الانتخابات نسبة مشاركة هزيلة استقرّت حسب أرقام الهيئة في حدود 11,66% وكانت أولى ردود الفعل لممثّليها تبريرية عدائية. رغم أن دور الهيئة يقتصر قانونيا على حسن تنظيم العملية الانتخابية، كانت تصريحات فاروق بوعسكر أشبه بالردّ على من تساءل حول مدى صحّة النسبة التي أعلنت عليها هو ما يمكن تفهّمه نظرا لغياب أي اهتمام من المواطنين والرأي العام بهذه الانتخابات، حيث لم يكن هناك أي مؤشر في الشارع التونسي على وجود انتخابات أصلا ما عدى ما كانت تبثه التلفزة الوطنية25.

الحوكمة المحلية في ظلّ مؤسسات 25 جويلية: بناء مؤسساتي هجين وهشّ

قبل أن يتم القضاء على مسار اللامركزية، كانت بعض أوجه النقد لهذه التجربة تتمثّل في ضعف التشاركية في بعض محطاته وفي التركيز على الجوانب القانونية والمؤسساتية مع إهمال الجانب التنموي والاقتصادي. يفترض إذن على أي تغيير يتمّ إدخاله على الحوكمة المحلية أن يعمل على تلافي هذه النقائص، إلا أنّ مشروع البناء القاعدي كان التجسيد الحقيقي لغياب التشاركية وغياب أي رؤية اقتصادية حقيقية للتنمية الجهوية. على سبيل المثال، عند إصدار الأمر المتعلق بتقسيم الأقاليم، تم إحداث هذا التقسيم الذي يكتسي أهمية كبرى على المستوى الاقتصادي والاجتماعي بصفة فردية ومسقطة دون تشريك أي فاعل أكاديمي أو مدني. وقد أشرنا إلى غياب أي دور حقيقي لهذه الأقاليم باستثناء دورها الانتخابي، وهو ما أكده فيما بعد عدم اعتماد التقسيم الجديد في الملحق عدد 2611 لقانون المالية المتعلق بالتنمية الجهوية والميزات التفاضلية للجهات الاقتصادية. هكذا، عوض أن يكون اعتماد تقسيم للأقاليم بشكل رسمي فرصة لوضع أسس الجهات الاقتصادية بطريقة ديمقراطية وتشاركية وذات مشروعية عالية، تم إفراغه من محتواه والاقتصار على الدور الانتخابي “التصعيدي” في برنامج قيس سعيد الفردي.

نفس التقييم ينطبق على المجالس المحلية التي يتضح لنا بعد تنصيبها، أن دورها لا يتعدّى البعد الانتخابي الشكلي إذ لا صلاحيات فعلية ولا موارد لها. وحتى إن افترضنا أنّ هذه المجالس المحلية والجهوية قد تلعب دورا معينا في اقتراح مشاريع تنموية، فإن ممثلي السلطة المركزية فيها -رغم أنهم أعضاء لا يصوتون- هم من يملكون المعلومة والخبرة بدواليب الدولة الإدارية والمالية ما يجعلهم يسيطرون فعليا على هذه المجالس. وينحصر بالتالي دور المجالس المحلية في “تصعيد” ممثّلين لمجلس نيابي دون صلاحيات أمام رئيس بصلاحيات مطلقة.

يضعنا هذا البناء المؤسساتي الهجين أمام مشهد يحتوي على فاعلين في نفس المجال: فاعل له وجود تاريخي وملموس (مقرات وميزانية وقدرة تنفيذية ومجلّة تعطيه نظريا الاختصاص الأصلي في الشأن المحلي) وهو البلديات وفاعل مستحدث له وجود قانوني وانتخابي دون أي عنصر مما سبق (المجالس المحلية)، إذا أضفنا البعد السياسي الرمزي الذي يعطي للمجالس “المحلية” دورا أساسيا في خطاب ومشروع الرئيس مقابل عداءه المعلن للبلديات، نستنتج أن هذه الوضعية ستفضي دون شك إلى تنازع صلاحيات في المستقبل.

إنّ القول بأن المجالس المحلية لها صلاحيات تنموية فيه افتراض أن البلديات لا دور تنموي لها (تدور تصريحات هيئة الانتخابات حول اضطلاعها بمهام وصفتها بالتقليدية من نظافة وتنوير…) في حين أن هذا غير صحيح بالنظر إلى فصول مجلة الجماعات المحلية: “المجلس البلدي مكلف باتخاذ التدابير اللازمة لدفع التنمية البلدية واستقطاب الاستثمار…” فصل 238، ولمكانة مخطط التنمية في دور الجماعات المحلية إذ ينص الفصل 105: ـ” يعتبر مخطط التنمية المحلية الذي يتم إعداده وفقا لمنهج تشاركي وبدعم من مصالح الدولة إطارا مرجعيا لضبط برنامج وتدخلات الجماعات المحلية والهياكل التابعة لها في المجال التنموي الشامل” والفصل 106: “يصادق مجلس الجماعة المحلية على مخططات التنمية المحلية.. ويأخذ بعين الاعتبار: – مقتضيات التنمية المستدامة، – تحفيز الشباب لبعث المشاريع، – المساواة وتكافؤ الفرص بين الجنسين…”27.

هذا المخطط الذي يتمّ اعتماد المقاربة التشاركية لوضعه ورغم نقائصه (ضعف الميزانية المخصصة للتنمية أو للميزانية التشاركية مثلا) هو آلية فعلية لتخطيط وتنفيذ مشاريع عكس ما يمكن انتظاره من مجالس محلية يتوقف دورها عند اقتراح مشاريع دون أي قدرة مالية على تنفيذها. وهو ما تؤكّده قيمة الاعتمادات المرصودة لدعم الجماعات المحلية في ميزانية الدولة لسنة 2024، حيث يؤشّر استقرار حجم التحويلات الموجهة لدعم الجماعات المحلية (869 م د 2024 مقابل 863 م د سنة 2023) على غياب أي ميزانية إضافية ستخصّص للمجالس المحلية خلال سنة 2024 وهو ما أكّد قراءتنا منذ إصدار المرسوم المتعلق بإحداث الأقاليم والذي نصّ على أن اجتماعات المجالس المحدثة ستكون في مقرات الولايات والمعتديات أي أنه لن لكون لها مقرات خاصة وإدارة أو حتى أرشيف28. من ناحية أخرى، إذا اعتمدنا فرضية الاشتراك في المجال التنموي فإن هذا يستوجب توزيعا للاختصاصات وآليات لفض التنازع وهو ما لا يحلّه قانون 1994 المتعلق بالمجالس المحلية للتنمية29 الذي يخص مؤسسات لامحورية استشارية ويهتمّ بمخطط التنمية لا بالعمل التنموي. لا بد من التأكيد في هذا المستوى إلى أنّ العمل التنموي لا يقتصر على مخططات التنمية فهو أشمل من ذلك كما تظهره الصلاحيات التنموية المسندة للبلديات في مجلة الجماعات المحلية دون أن ننسى أهمية الانسجام مع دور الجهات والأقاليم المنصوص عليه في دستور 2014 ومكانة منظومة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني الذي أسّس الفصل 109 من مجلة الجماعات المحلية للشراكة بينها وبين الجماعات المحلية: “تلتزم الدولة بدعم مشاريع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني ومشاريع التنمية المستدامة ومشاريع إدماج المرأة فعليا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية بواسطة عقود تبرم للغرض مع الجماعة المحلية المعنيّة”.

وبالنظر لكل هذه النقاط، نستنتج أن المساهمة في مخطط التنمية كممثل للجماعات المحلية لا يمكن أن يمثّل دورا جديدا يبرّر تنصيب مجالس منتخبة بهذا العدد، فتمثيل المحليّات في إعداد مخططات التنمية على المستوى الجهوي متاح عبر المنهجية المعتمدة حاليا من وزارة الاقتصاد والتخطيط30 والتي تشرّك كذلك الأطراف الاجتماعية والمجتمع المدني31.

عمليا، كانت نتيجة تنصيب هذه المجالس باعتبار كل ما سبق متوقعة، حيث نجد مجالس وجودها شبه افتراضي ما دفع بعض أعضاء المجالس المحلية في تصريحات إعلامية بمناسبة إجراء القرعة الأولى للمطالبة بتوضيح صفتهم وتمكينهم من الدخول لمؤسسات الدولة التي رفضتهم حسب أقوالهم32. وقد برز عدم تحمّس المؤسسات الجهوية اللامحورية للتعاون مع هذه المجالس على سبيل المثال من خلال احتجاج أعضاء المجلس المحلي بالزهور (القصرين) على رفض معتمد الزهور تمكينهم أعضاء المجلس المحلي من مفاتيح المكتب المخصص للمجلس ورفض الوالي مقابلتهم33.

إلى حدّ هذه اللحظة، تكتفي هذه المجالس بمحاولة لعب دور احتجاجي “تدعو” فيه من خلال بياناتها المؤسسات المعنية للتدخّل ما يجعلها في وضعية أقرب لجمعيات تشكّل حزاما أهليا34 لمشروع الرئيس35 منها لجماعات محلية منتخبة تمارس صلاحيات واضحة.

ميزانية 2024 والتنمية الجهوية: حين تسقط الشعارات الرنانة أمام امتحان الممارسة

مثّلت المصادقة على ميزانية 2024 مناسبة أخرى للوقوف على التناقضات بين الخطاب الرسمي السيادوي والممارسة السياسية الفعلية فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية بشكل عام وبالحوكمة المحلية على وجه الخصوص. حيث أمام الأزمة الشاملة التي تعيشها البلاد من ضعف نسبة النموّ وتعطّل محركاته، يواصل العقل المحاسباتي المتمثل في التركيز الحصري على بلوغ توازنات الميزانية السيطرة على ذهنية أصحاب القرار وإن كان على حساب الاستثمار والانفاق العمومي36. لا يمثل الاستثمار العمومي سوى 6,7% من الميزانية وهي نسبة في تراجع مستمر منذ سنوات، وقد كانت تبلغ هذه النسبة 20% في آخر ميزانية قبل الثورة. على مستوى التنمية الجهوية بالإضافة لاستقرار الاعتمادات الموجهة للجماعات المحلية، عديد الملاحظات يمكن تقديمها حول ميزانية 202437 يتلخص بعضها في:

  • محدودية الاعتمادات المحالة للمجالس الجهوية في نفقات التنمية بميزانية الدولة.
  • ضعف الموارد الجبائية للجماعات المحلية وتفاقم مديونيتها38 وانحسار الاستثمارات البلدية في مستوى 273 م د مبرمجة لسنة 2024 مقابل 261 م د سنة 2023.
  • ضعف واستقرار ميزانية وزارة الاقتصاد والتخطيط في علاقة بالتنمية القطاعية والجهوية (677,585 م د) مقابل (668,228 م د) في 2023 وبالخصوص في علاقة بالبرنامج الجهوي للتنمية الذي سجل استقرارا لمستوى الاعتمادات المرصودة لتحسين ظروف العيش ودعم موارد الرزق في حدود 300 م د سنة 2024 مقابل 329 م د سنة 2023.

دون أن ننسى العوائق الهيكلية غير المرتبطة مباشرة بقانون المالية (منها ما هو قانوني، ترتيبي، عقاري…) والتي تحول دون تحقيق التنمية الاقتصادية في الجهات، والتي تفتقد السلطة الحالية لأي رؤية لمواجهتها.

خاتمة: لا تنمية محلية دون ديمقراطية

إن تحليل الحوكمة المحلية وتطوراتها يجعلنا ننبه من جديد إلى أنّ السياسات العمومية الناجعة لا تحتمل الاعتباطية التي عرفها تسيير الشأن المحلي كحلّ للمجالس البلدية المنتخبة وإدخال فاعلين جدد كالمجالس المحلية دون أي ملائمة قانونية ومؤسساتية. على مستوى أشمل، يظهر عدم تناسق السياسات العامة للدولة في مخالفة الخطة التنموية الوطنية (مخطط التنمية 2023-2025 ووثيقة تونس 392035) التي تنصّ على استكمال دعم مسار اللامركزية40 وملائمة النصوص القانونية مع مقتضيات مجلة الجماعات المحلية ودعم الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في حين نزّلت سلطة 25 جويلية “البناء القاعدي” على أنقاض اللامركزية والشركات الأهلية على حساب الاقتصاد الاجتماعي والتضامني. وأمام الفشل المتوقع لهذه السياسات، وعوض الوقوف أمام المتغيرات القانونية، الاقتصادية والاجتماعية الواجب اعتبارها، تستمر السلطة القائمة في منهج التبرير والمؤامراتية عبر اتهام اللوبيات والمتآمرين وحتى الإدارة بالوقوف وراء تعطيل “حرب التحرير الوطني”.

ختاما، يتفق المختصون والمتابعون لمسألة الحوكمة الجهوية أن اللامركزية كانت فرصة ضائعة لتحقيق البعدين الأساسيين للثورة التونسية: الحق في الاعتراف والمشاركة السياسية للجهات والحق في التنمية المحلية والحد من اللامساواة بين الجهات. بعد نسف هذه التجربة الطموحة في المهد إلى جانب باقي مؤسسات التجربة الديمقراطية، لا يقدم “مسار 25 جويلية” سوى “البناء القاعدي” كبديل لها، ويتبيّن لنا من خلال تحليل تمظهراته القانونية والعملية أنه يحمل تصوّرا مثاليا لمسألة التنمية حيث يحصرها في البعد المحلي الضّيق في حين أن التحدّيات وطنية بالأساس (ملفات أساسية كالمياه، الطاقة، السياسة الجبائية…)، وهو على نقيض التخطيط لأنّه لا يمكّن من التأسيس لرؤية وطنية تشاركية. أما العنصر الأهم فيتمثل في وهم التنمية في ظل الاستبداد، فكما كان تركيز ديمقراطية سياسية مع إهمال التنمية الاقتصادية أحد العوامل التي أدت إلى إجهاض التجربة الديمقراطية، فإن أي رؤية للتنمية المحلية لا تولي اهتماما للديمقراطية أو تحاول مقايضة الحرية مقابل التنمية مصيرها الفشل.


  1. منظمة البوصلة (مارس 2023): قراءة أولية في مراسيم 8 مارس 2023: قتل المواطنة باسم البناء القاعدي ↩︎
  2. زيارة الرئيس قيس سعيد للمنستير بمناسبة ذكرى وفاة الرئيس الحبيب بورقيبة ↩︎
  3. (ورقة المراسيم)، ↩︎
  4. منظمة البوصلة (2023): حصيلة تجربة اللامركزية في تونس: مساهمة في تقييم مرحلة الانتقال الديمقراطي، مؤطر نظري 1: اللامركزية كفرصة لتحقيق التنمية الجهوية– ص24 ↩︎
  5. Amor Belhedi: « La pertinence de la région en période de transition démocratique en Tunisie », dans  « La question des régions en Géographie ». Perspectives Internationales, 2019, L’Harmattan, Coll. Colloques et Rencontres. Lamarre J et Mukakayumba E (Dir), pp.141-162. ↩︎
  6. Baccar Gherib : « Acquis et limites d’une économie nationale » dans 60 ans de République, Leaders (2016) ↩︎
  7. Najem Dhaher (2010) :« L’aménagement du territoire tunisien : 50 ans de politiques à l’épreuve de la mondialisation », EchoGéo 13 | 2010. ↩︎
  8. صغير الصالحي: الاستعمار الداخلي و التنمية غير المتكافئة في تونس، 2017 ↩︎
  9. أوكلت وظيفة التصور خطأ إلى وزارات تقنية وقطاعية مثل السياحة و التجهير و الفلاحة و البيئة. المصدر نفسه ص 323. ↩︎
  10. ECOPA (2012) cité dans Observatoire Tunisien de l’Economie (2014) : Bilan des incitations aux investissements en Tunisie ↩︎
  11. Tizaoui, Hamadi. (2015). La métropolisation de l’industrie tunisienne et le décrochage industriel des régions intérieures. Méditerranée. ↩︎
  12. Banque mondiale (2014) la révolution inachevée et Ghazouani, K (2011) : « Les incitations à l’investissement pour le développement régional en Tunisie: Une évaluation », Région et Developpement, 2010, vol. 31, 169-200 ↩︎
  13. الصالحي (2019) تم ذكره ↩︎
  14. Belhedi, Amor. (2016). Aménagement du territoire et régionalisation en Tunisie. Enjeux et défis. Global-Local Forum ↩︎
  15. لطفي بن عيسى (6 مارس 2024): مداخلة بندوة المرصد التونسي للاقتصاد: “مالية عمومية في خدمة التنمية المحلية: اي خيارات مستقبلية من اجل تكريس الحق في التنمية” ↩︎
  16. يذكر أن الأقلمة هي ترجمة للمصطلح الجغرافي régionalisation ولا تخصّ الأقاليم فحسب ↩︎
  17. منظمة البوصلة (أكتوبر 2023): تقسيم الأقاليم: اختزال انتخابي ضيق لتحديات تنموية عميقة ↩︎
  18. وزارة التخطيط المخطط التنموي 2023-2025: جانفي 2023 ↩︎
  19. المحور السادس تونس 2035 ↩︎
  20. وزارة التخطيط المخطط التنموي 2023-2025: جانفي 2023 ↩︎
  21. منظمة البوصلة (ديسمبر 2023): حصيلة تجربة اللامركزية في تونس: مساهمة في تقييم مرحلة الانتقال الديمقراطي. الجزء الثالث ↩︎
  22. منظمة البوصلة (مارس 2023): قراءة أولية في مراسيم 8 مارس 2023: قتل المواطنة باسم البناء القاعدي ↩︎
  23. Grossman, E. (2018). Populisme et gouvernabilité dans la perspective des élections européennes. Revue de l’OFCE, 158, 463-474.  ↩︎
  24. منظمة البوصلة (أكتوبر 2023): تقسيم الأقاليم اختزال انتخابي ضيق لتحديات تنموية عميقة ↩︎
  25. ياسين النابلي-المفكرة القانونية (23 ديسمبر 2023): انتخابات المجالس المحليّة في تونس: لماذا أصبحَت اللاّحَدَث؟ ↩︎
  26. المرصد التونسي للاقتصاد (منشور بتاريخ 5 مارس 2024): “ماذا يكشف لنا الملحق عدد 11 حول مؤشرات التنمية الجهوية وواقع الاستثمار في الجهات؟” ↩︎
  27. عبد الرزاق مختار (16 ديسمبر 2023): مداخلة بندوة مخبر الحوكمة بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس ↩︎
  28. منظمة البوصلة (أكتوبر 2023): تقسيم الأقاليم: اختزال انتخابي ضيق لتحديات تنموية عميقة ↩︎
  29. منظمة البوصلة: الانتخابات “المحلية” أو مشروع الرئيس الأصلي: مسار لا سياسي وغموض قانوني أدى إلى مقاطعة واسعة ↩︎
  30. وزارة التنمية والاستثمار والتعاون الدولي (2019): منهجية التخطيط بتونس: الإطار العام والمسار ↩︎
  31. Taghouti, I., Elloumi, M., Hinojosa, L. & Napoléone, C. (2020). Planification nationale en Tunisie : Une analyse diachronique. Maghreb – Machrek, 246-247, 25-42. ↩︎
  32. التلفزة الوطنية تقرير بتاريخ 1 جوان 2024: إجراء قرعة التناوب على المجالس الجهوية والتداول على رئاسة المجالس الجهوية والمحلية ↩︎
  33. بيان المجلس المحلي بالزهور-القصرين بتاريخ 04/06/2024 ↩︎
  34. لا مدنيا ↩︎
  35. ياسين النابلي- المفكرة القانونية (03/02/2022): “الأهلانية” المَخفيّة في فكر قيس سعيد: أنا وابن عمي ضدّ الأحزاب والجمعيات ↩︎
  36. منظمة البوصلة (2024): عودة على مسار ميزانيّة 2024: التّمادي في نهج التّقشّف والمديونيّة رغم الشعارات السيادوية ↩︎
  37. لطفي بن عيسى (6 مارس 2024)، تم ذكره ↩︎
  38. حول مديونية البلديات، انظر تقرير البوصلة حول تقييم مسار اللامركزية ص93 ↩︎
  39. المحور السادس من رؤية تونس 2035 ↩︎
  40. وزارة الاقتصاد والتخطيط المخطط التنموي 2023-2025 ↩︎

إقرأ أيضا