مقدمة
يمثّل الانتقال الطاقي أحد عناصر الخطاب الرسمي في تونس منذ سنوات في تماه مع سياق عالمي يدفع في اتجاه الاستثمار في الطاقات المتجددة وتخفيض الاعتماد على الطاقات الأحفورية. ويقدّم هذا الخطاب الطاقات المتجددة وخصوصا الطاقة الفوطو-ضوئيّة والهيدروجين “الأخضر”، كحلّ مثالي سيمكّن البلاد من تجاوز عجزها الطاقي وجذب الاستثمارات الأجنبية ما يساهم في معالجة الأزمة الاقتصادية.
ولكن هذه العناوين التي ترفعها الدولة التونسية والمؤسسات الدولية “الداعمة” لها في هذا الملف، تخفي ما وراء هذه الاستثمارات من تعميق للفجوة بين الجهات وتكريس لنفس آليات الاستغلال التي يعتمدها النموذج الاستخراجي والتي تتمّ على حساب مواطني المناطق الداخلية مقابل تحقيق فوائض ربحية للمستثمرين دون عوائد تنموية أو إيكولوجية حقيقية للبلاد.
ويظهر أحد أوجه لا عدالة هذه الاستثمارات في مسألة استغلال الأراضي لمشاريع إنشاء محطّات إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح. في هذا الإطار، استعمل الرئيس قيس سعيد سلطة المراسيم لرفع العقبات أمام استغلال الأراضي الدولية والفلاحية لهذه المشاريع. أمّا بخصوص الأراضي الاشتراكية والخاصّة، خصوصا في الجنوب حيث لا تزال المسائل العقارية تمثّل إشكالا ونزاعا بين السلطة والأهالي، فقد مرّت السلطة إلى السرعة القصوى عبر استعمال الأساليب القهرية لبسط نفوذ المستثمرين على هذه الأراضي مثلما يحدث الآن في قرى سقدود وشنني والدويرات.
إن هذا التوجّه ليس بمعزل عن رغبة الدول الأوروبية في تنويع مصادر تزويدها بالطاقة سعيا لتحقيق أهدافها ومؤشراتها الخاصّة على حساب المصالح البيئية والاقتصادية لدول الجنوب، وذلك من خلال اتفاقيات غير شفافة تغطّيها شعارات جذابة كالانتقال الطاقي والتعاون الاقتصادي.
نسعى من خلال هذه الورقة إلى تسليط الضوء على الرهانات المتعلقة بهذه المشاريع وإبراز الإشكاليات التي يجب أخذها بعين الاعتبار حتى يكون الانتقال الطاقي التونسي عادلا ونابعا من رغبة وطنية لتحقيق الاكتفاء الذاتي الطاقي ولضمان حق المواطنين.ات في الولوج إلى الطاقة.
“الانتقال الطاقي“: باراديغم مظلل
يمثّل الخطاب حول “الانتقال” بصفة عامة أحد عناصر الخطاب المهيمن دوليا خاصة في علاقة بدول الجنوب، إذ يتمّ تقديم “الانتقال” كمسار حتمي لبلوغ التقدم والازدهار ويأخذ عدة أشكال يتم الترويج لها في أدبيات المؤسسات الدولية كالانتقال الرقمي أو الطاقي.
تخفي هذه المصطلحات التي قد تبدو جذابة أو حتى بديهية عديد العناصر حول هذه طبيعة هذه الانتقالات: كيف تجرى ولصالح من؟ وهل كل انتقال يفضي بالضرورة إلى نموذج جيد؟ وأي انتقال تدفع باتجاهه المؤسسات الدولية وأذرعها المالية والتقنية؟
يهيمن على الدراسات حول “الانتقال” المقاربة السوسيوتقنية الأروبية المركز1 وينظر إلى الانتقال في هذا السياق كـ:”تحولات تكنولوجية بارزة في طريقة اشتغال وظائف اجتماعية كالنقل، التواصل، السكن، الغذاء”2 أو بعد تطويرات طفيفة كـ”تغييرات هيكلية عميقة في أنظمة -كالطاقة- والتي من بينها إعادة تشكيل معقد وطويل المدى للتكنولوجيا، السياسات، البنية التحتية، المعرفة العلمية والممارسات الثقافية والاجتماعية من أجل غايات مستدامة”3.
تهمل إذن هذه النظرية رغم بعض التعديلات التي طرأت عليها أبعادا مهمة تتعلق بالاقتصاد السياسي للانتقال كعلاقات الهيمنة والمصالح والأبعاد التاريخية والاجتماعية. فاختلاف السياق المؤسساتي والاجتماعي لكل بلاد يؤدي إلى اعتماد مسارات مختلفة للانتقال الطاقي تتأثر بموازين القوى والتأثيرات الخارجية واختيار الأولويات السياسية بين خيار التشجيع على الطاقات المتجددة أو التركيز على التنمية المدمجة.
في سياق الانتقال الطاقي، تشير دراسات جغرافية أخرى إلى أن الانتقال الطاقي يجسّد مسارات ذات تأثيرات مجالية واجتماعية مختلفة، وأن إعادة تشكيل الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية على ضوئها يؤدي إلى نتائج مختلفة حسب الفئات الاجتماعية والمجالات4 والتي لا تستفيد بنفس الكيفية من استخراج، توليد، تمويل، توزيع واستهلاك الطاقة5.
هكذا يمكن أن نميّز بين رؤيتين/مسارين متنافستين لماهية الانتقال الطاقي:
- رؤية معتمدة على السوق والنمط الاستخراجي وتشجع عليها المؤسسات الدولية وتؤدي إلى نموذج ليبرالي مبن على الخوصصة. تهمل هذه الرؤية عديد الأبعاد الهيكلية للانتقالات كعلاقات الهيمنة والمصالح كما تؤدي في الواقع إلى تبرير تبني النموذج النيوليبرالي للانتقال الذي يُخضع كل القطاعات بما فيها الحيوية لمنطق السوق والربح. وتعتمد المؤسسات الدولية في سبيل شرعنة هذا النموذج وفرضه على دول الجنوب على استخدام القروض وتمويلات التنمية والتحالف مع قوى محلية مستفيدة من هذا الانتقال ماليا وسياسيا. كما يتقاطع تأثيرها مع مصالح عديد المتدخلين الإضافيين: رأس المال العالمي والشركات عبرالقطرية الناشطة في المجال الطاقي والبنوك “التنموية” الدولية إلى جانب النخب السياسية المحلية6.
- رؤية شاملة للانتقال الطاقي تأخذ بعين الاعتبار مختلف المتغيرات الاجتماعية البيئية الجندرية المتدخلة في هذا المجال (كالديمقراطية، والشفافية والإرث الكولونيالي والتبعية الطاقية والاقتصادية..) ومصالح مختلف الفاعلين خاصة السكان الأصليون، المزارعون، النساء.. يتجسّد هذا الطرح في مبدأ الانتقال الطاقي العادل والذي خطّت خصائصه بوضوح في اجتماع الحركات البيئية والعمالية في أمستردام 2019 ومنها البعد الجندري، الطبقي، العرقي، والديمقراطي7.
إن رؤيتنا للانتقال الطاقي العادل وأخذنا بعين الاعتبار لأبعاد اقتصاده السياسي في دول الجنوب تؤدي بالضرورة للنظر إليه في السياق التونسي كمكوّن من نظام عالمي يكرّس التبعية الطاقية وتمارس فيه المؤسسات الدولية تأثيرا على دول الجنوب لاتباع نموذج طاقي استخراجي نيوليبرالي يضيف الطاقات المتجددة كأحد مصادر انتاج الطاقة دون أن يفضي ذلك إلى تغيير حقيقي في طبيعة النظام الاستخراجي وتأثيراته الكارثية على الأرض وحياة الشعوب.
كما أن نظرتنا للانتقال الطاقي العادل لا تندرج في المعجم الذي صارت تعتمد عليه المؤسسات النيوليبرالية التي قامت باستعادة هذا المصطلح خدمة لسرديتها بعد اعتماده في توطئة اتفاق باريس تحت ضغط الحركات الاجتماعية البيئية والنقابية. حيث غالبا ما يقتصر حصور هذا المصطلح على مستوى الشعارات لتغطية السياسات المعتادة8 وهو ما دأبت عليه هذه المؤسسات في كل الملفات أخرى كالديون والتقشف والدعم…
استراتيجيات الانتقال الطاقي في تونس: أي انتقال ولصالح من؟
في كل الحالات، يمثل الانتقال الطاقي في شكله الأساسي أي الانتقال نحو مصادر طاقة تحتوي على اقل إصدارات من الكربون (تعريف الوكالة الدولية للطاقة المتجددة IRENA) تحديًا هامًا لتونس في ظل التغيرات الاجتماعية والسياسية وزيادة الطلب على الطاقة. ولا تزال تمثّل نسبة مساهمة الطاقات المتجددة المطروحة كأول بديل نحو هذا التحول الطاقي سوى 3% من المزيج الطاقي التونسي وهي نسبة ضئيلة جدا وبعيدة عن الهدف المرسوم وطنيا ببلوغ 30% في أفق سنة 2030.
تتعلق التحديات الرئيسية التي تواجه النظام الطاقي الحالي في تونس بتأمين الطلبات الطاقية، وحوكمة نظام الدعم، وتأثير الاعتماد على استيراد الوقود والغاز على الجوانب الاجتماعية وجودة الحياة. إلا أنه ينبغي أن يرتبط بكل جوانب الانتقال الطاقي العادل وأن يكون خاصة موجّها لحاجيات السوق التونسية لا أن يؤدي لاعتماد نموذج ليبرالي يؤدي إلى خوصصة قطاع الطاقة والإضرار بالبيئة وموارد البلاد الطبيعية والمائية.
تاريخيا، تحولت تونس من كونها موردًا للطاقة إلى بلد مستورد صاف للطاقة منذ بداية الألفية الثالثة، نتيجة لزيادة الطلب وانخفاض إنتاج الطاقة المحلية9. على الرغم من أن تونس كانت مصدّرًا للنفط والغاز الى حدود التسعينات، إلا أنها أصبحت بلدا مستوردا منذ العقد الماضي. إذ، تحوّل ميزان الطاقة (يحتسب بنسبة الاستقلال الطاقي) من الفائض (124% سنة 1990) إلى العجز منذ عام 2001 ليبلغ 80% سنة 102012 و48% سنة 112023.
لم تشهد السياسة الوطنية للطاقة تحولًا إلا في عام 2009 مع إطلاق المخطط الشمسي التونسي، الذي تزامن وارتبط بالمخطط الشمسي المتوسطي الذي أطلقه الاتحاد الأوروبي في نفس العام، بالتعاون مع دول جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط، وذلك في إطار الاتحاد من أجل المتوسط، لتحقيق أهدافه في مجال الطاقة المتجددة.
منذ إطلاق المخطط الشمسي المتوسطي، تبنّت الوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة نهجًا أكثر “استباقية” في تقديم الحوافز، بهدف تعزيز حوكمة الطاقة وتحقيق تقدم ملموس في مجال الطاقة المتجددة، بالإضافة إلى تقليل الاعتماد على المصادر التقليدية للطاقة والحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، أو هكذا يُعلن في كل الاستراتيجيات الوطنية المتعاقبة منذ إطلاق المخطط الشمسي المتوسطي. فيما يتعلق بالانبعاثات العالمية لغازات الانحباس الحراري، لا تتجاوز مساهمة تونس فيها نسبة 0.07% ما يدفعنا إلى التساؤل حول المكانة الأساسية التي تحتلها هذه المسألة في المشاريع الطاقية التي تجرى بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي خاصة وأن تركيزها استوجب تعبئة موارد ضخمة تقدر بنحو 18 مليار دولار أمريكي12 لتغطية احتياجات الاستثمار وبرامج بناء القدرات. في هذا الإطار، أطلقت الحكومة الفرنسية في نوفمبر 2009 مبادرة لدراسة إمكانية نقل التيار الكهربائي المستمر لمسافات طويلة بين مراكز إنتاج الطاقة الشمسية والرياحية إلى نقاط الاستهلاك حول ضفتي البحر الأبيض المتوسط، ضمن مشروع MEDGRID، مما يتيح إنشاء شبكة متكاملة من الانابيب الناقلة للطاقة والتي تربط بين الشمال والجنوب. يهدف مشروع MEDGRID إلى دراسة وتطوير شبكة كهربائية بحرية متقدمة تربط شمال أفريقيا بأوروبا، مما يسهل تبادل الطاقة المتجددة بين المنطقتين، ويعزز الاستفادة القصوى من الموارد الطبيعية للطاقة الشمسية والرياحية في جنوب المتوسط.
يتضح أن ما يبدو وكأنه سياسات طاقية تونسية هو في الحقيقة نتيجة مباشرة لإملاءات أوروبية، تقوم دول الشمال بتعديلها حسب التزاماتها وتطلعاتها، واستجابةً للضغوط مثل تلك الناتجة عن الحرب الأوكرانية الروسية واعتمادها على الغاز الروسي. يحاول الاتحاد الأوروبي من جهة تقليل اعتماده على المصادر التقليدية للطاقة وتحقيق أهدافه البيئية، ومن جهة أخرى تأمين مصادر طاقة بديلة ومستدامة لمواجهة التقلبات الجيوسياسية. لذلك، غالبًا ما يرتبط تطوير الإطار التشريعي المتعلق بالطاقات المتجددة بتأثير الشركاء الأوروبيين وجهودهم لإقناع السلطات بتبني الإصلاحات التي يفرضونها.
يمثل التأثير على الإطار التشريعي أحد عناصر ال “modus operandi” الذي تقوم عليه استراتيجيات دول الشمال لاستغلال ثروات الجنوب العالمي. ويأخذ اللوبيينق الأوروبي للتأثير على الإطار القانوني والمؤسساتي أشكالا عديدة كاحتضان الحوارات السياسية (policy dialogue) بين الفاعلين الحكوميين والخواص أو باستعمال غطاء المساعدة التقنية في ووضع الاستراتيجيات الوطنية المختلفة، وهذا ما نلمسه في الحالة التونسية حيث مولت وكالة التعاون الفني الألماني جلّ الدراسات المتعلقة بالقطاع الطاقي. كما نجد من بين الأهداف المرسومة في إطار الاستراتيجية المتعلقة بتونس 2018-2023 للبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية: “دعم تنافسية المؤسسات التونسية عبر فتح الأسواق” و”دعم انتقال تونس إلى الاقتصاد الأخضر”. كما يسطّر على تحقيق بعض منها خلال الفترة المنقضية (2017-2022) في إطار الأولوية 3 كـ:”وضع برنامج طاقات متجددة لدعم القطاع الخاص عبر توفير الاستشارة لوزارة الطاقة.. ومناصرة الشكل البنكي للPPA مع كل المتدخلين: رئاسة الحكومة، وزارة الطاقة، الشركة الوطنية للكهرباء والغاز، النقابات و البنوك”.. كما تؤكّد الوثيقة على “مواصلة العمل على مناصرة الإصلاحات مع المؤسسات المالية الدولية لتقوية مشاركة القطاع الخاص في القطاعات الأساسية (كالطاقة والبنية التحتية)”. وتؤكّد على “الاتفاق مع السلطات حول تحسين النجاعة الطاقة بما في ذلك الدعم القانوني من أجل الطاقات المتجددة”..
لا تشذ تونس إذن عن هذه القاعدة حيث كان تخطيط مشاريع الطاقات المتجددة والإطار القانوني المرافق لها مرتبطا مباشرة بالتأثير الشركاء الأوروبيين وخاصة ألمانيا، التي تسعى لتقليل انبعاثاتها الغازية بصفتها رابع قطب صناعي في العالم، كما أنها تعتبر أحد أبرز الفاعلين في ميدان الطاقات المتجددة ما يجعلها تبحث عن أسواق لتكنولوجيتها وخبراتها في هذا المجال. هكذا من اللافت للنظر حضور شعار وكالة التعاون الفني الألماني في كل المشاريع والدراسات المتعلقة بالبيئة. بداية من 2012، والشراكة التونسية-الألمانية حول الطاقة، وفر الجانب الألماني المساعدة التقنية لتطوير قطاع الطاقة في تونس بما ينسجم مع مصالحه ويشير ملاحظون13 أن تأثير هذا “الدعم” نجد له صدى في بعض تدابير قانون 2015.
وفي سبتمبر 2023، أطلقت وزارة الصناعة والطاقة والمعادن التونسية بالتعاون مع الوكالة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ) الاستراتيجية الوطنية لتطوير الهيدروجين الأخضر ومشتقاته في تونس، بهدف تصدير أكثر من 6 ملايين طن من الهيدروجين الأخضر إلى أوروبا بحلول عام 2050. رغم الإشادة الواسعة بهذا المشروع، فإن هناك جوانب سلبية عديدة لم تحظَ بالنقاش الكافي (وسنتعرض لها في الجزء الثاني من هذه الورقة)، حيث أن تلبية احتياجات الاتحاد الأوروبي والامتثال لمتطلباته قد تترتب عليه تكاليف باهظة بيئية واجتماعية بسبب تبعات هذه المشاريع و “الإصلاحات” التي ترافقها على حق المواطنين في هذا المرفق الحياتي14.
يظهر لنا من خلال هذه المعطيات سبب التباين الشديد في سرعة تطبيق “الالتزامات” الحكومية بين القطاع الطاقي وباقي مكونات استراتيجيا الانتقال الايكولوجي أو الاستراتيجية الوطنيـة للتنميـة ذات الانبعاثات الغازيـة الضعيفـة والمتأقلمـة مـع التغيـرات المناخيـة فـي أفـق 2050، حيث تراوح جميع مكونات الاستراتيجية الباقية (الفلاحة، الصحة، المياه…) مكانها مقابل المرور إلى السرعة القصوى في القطاع الطاقي بالتحديد تحت تأثير اللوبيينق الأروبي.
مشاريع غايتها الأولى التصدير
يعدّ مشروع TuNur لانتاج الطاقة الشمية من أبرز المشاريع المبرمجة بالتعاون مع الجانب الأوروبي وهو مشروع مشترك بين Nur Energy، وهي شركة تطوير للطاقة الشمسية مقرها بريطانيا، ومجموعة من المستثمرين المالطيين والتونسيين في قطاع النفط والغاز ويهدف إلى استغلال الطاقة الشمسية في صحراء تونس لإنتاج الكهرباء. يقع المشروع بشكل رئيسي في منطقة قبلي، ويهدف إلى توليد الطاقة الشمسية المركزة (CSP) وتصديرها إلى أوروبا عبر كابلات بحرية. حسب المخطط الشمسي المتوسطي، يهدف هذا المشروع إلى توفير 4.5 جيقا واط-ساعة موجهة للتصدير إلى ايطاليا أساسا ثم فرنسا ومالطا.
يأتي هذا المشروع في إطار السعي الأروبي لتقوية الترابط الكهربائي مع منطقة شمال إفريقيا حتى تكون بديلا للتبعية للغاز الروسي، وتجسد هذا التوجه الاستراتيجي في إعادة إحياء برنامج Desertec وهي مجموعة ضغط(Desertec Foundation) أسستها سنة 2003 منظمة Trans-Mediterranean Renewable Energy Cooperation (TREC) المنبثقة عن نادي روما والتي تهدف لتطوير انتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة في الصحراء.15 وتم في هذا الإطار تكوين ثلاثة تجمعات Desertec Industrial Initiative وهو مجموعة متكونة من شركات صناعية ألمانية في قطاع الطاقة مقرها مونيخ، و هي MedGrid و MED-TSO16
تم التخلي عن مشروع Desertec في 2014 لعدة عوامل أهمها توجه أوروبا بسبب انخفاض أسعار اللوحات الشمسية آنذاك إلى محاولة توفير حاجياتها من الطاقة النظيفة داخليا، وكان الأسباب المعلنة حول التخلي عن مشروع Desertec في تونس (2014) هي ارتفاع تكلفته إضافة لعدم تلاؤم الإطار القانوني الوطني بتونس مع الرؤية الأروبية للمشروع خاصة فيما يتعلق بتدخل القطاع الخاص ومسألة دعم الطاقة، و”انعدام ثقة المستثمرين” 17.
أمّا السبب الأبرز فقد كان الخلاف بين مؤسسة Desertec و Desertec Industrial Initiative18، إلا أن فلسفته القائمة على استغلال الصحراء الكبرى للحاجيات الأروبية ظلت مستمرة بل وعادت بقوة بعد الحرب الروسية وتجسّد المخاوف الأروبية بشأن تبعيتها الطاقية لروسيا.
على إثر ذلك عدّلت تونس بشكل كبير من إجراءاتها المتعلقة بسياسة الطاقة من خلال القانون 12 – 2015، الصادر في 11 ماي 2015 كإطار قانوني لإنتاج الكهرباء من الطاقة المتجددة، يهدف هذا القانون إلى تحديد النظام القانوني الذي ينظّم تنفيذ مشاريع إنتاج الكهرباء من الطاقة المتجددة للاستهلاك الذاتي، وتلبية احتياجات الاستهلاك المحلي، والتصدير. وينص هيكله القانوني على تشجيع استثمار القطاع الخاص في انتاج الكهرباء من مصادر متجددة. وقد ألحق هذا القانون بمرسوم تنظيمي صدر في 24 أوت 2016، والذي يحدد شروط وإجراءات تنفيذ مشاريع إنتاج وبيع الكهرباء من الطاقات المتجددة، مع تعريفات شراء الفوائض من المنتجين المستقلين للكهرباء. وقد عدلّت الدولة عديد النصوص للتشجيع على الاستثمار في الطاقات المتجددة، فإضافة إلى مشاريع الطاقات المتجدّدة للاستهلاك الذاتي (مع بيع الفائض إلى الشركة الوطنية للكهرباء والغاز ونقله عبر شبكتها)، فتح قانون تحسين مناخ الاستثمار لسنة 2019 إمكانيّة إنجازها على أراضٍ تابعة لملك الدولة عبر ترخيص، وكذلك على الأراضي الفلاحيّة عبر استثنائها تماما من شرط تغيير الصبغة الفلاحية19.
الشركة التونسية للكهرباء والغاز: حجر الأساس في مسار خوصصة الطاقة
إلغاء الدعم المباشر وغير المباشر على الكهرباء
تعتبر الشركة التونسية للكهرباء والغاز (الستاغ) مفخرة للقطاع العمومي إذ بلغت تونس بفضلها نسبة كهربة في مستوى 98,8% وهي من بين الأعلى في إفريقيا وفي مجموعة الدول الشبيهة بتونس، وتمكّن الدولة عن طريق دعمها المباشر وغير المباشر للكهرباء من توفير هذا المرفق الأساسي للمواطنين.ات دون تحميلهم تبعات تقلبات أسعار الطاقة العالمية.
لطالما كان كسر “هيمنة” الشركات العمومية على القطاعات الاستراتيجية وإلغاء الدعم المباشر لأسعار المواد الأساسية والطاقة من بين أهم “الإصلاحات” التي تطالب بها المؤسسات المالية الدولية.
وقد انخرطت تونس في هذا المسار تحت تأثير الاتفاق مع الصندوق سنة 2013 والذي كان من بين تبعاته إجراء تدقيق أفضى إلى إلغاء السعر التفاضلي20 لشراء الغاز من المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية الذي أجبر الستاغ على الخروج إلى الأسواق العالمية واضطرها في سبيل ذلك للاقتراض من البنوك بالعملة الأجنبية وارتفاع مستوى ديونها21. وتواصل الحكومة في تخطيط وتنفيذ هذه الإصلاحات رغم شعارات الرئيس السيادوية حيث أبقت على “التعديل التدريجي لأسعار الكهرباء والغاز لبلوغ حقيقة الأسعار” (أي إلغاء الدعم المباشر لأسعار الكهرباء) في حدود 2026 من ضمن أهدافها الموضوعة في وثيقة إطار الميزانية متوسط المدى في سنة 2023 وفي المنشور المتعلّق بإعداد مشروع ميزانيّة الدّولة لسنة 2025.
الطاقات المتجددة: البنية التحتية للستاغ لصالح المستثمرين الأجانب
رغم أن الأزمة المالية للستاغ ناتجة في معظمها عن تطبيق إصلاحات المؤسسات المالية الدولية، يتواصل الترويج للخوصصة كحلّ لتوفير الطاقة في ظلّ مشاكل الشركة المالية بما فيها الطاقات المتجددة وقد مثّل القانون 12 لسنة 2015 خطوة أخرى في هذا المسار.
في إطار هذه الرؤية الليبرالية، يقتصر دور الستاغ في قطاع الطاقات المتجددة على نقل الكهرباء وشراء الفائض من التوليد الذاتي والترخيص لإنشاء شركات متخصصة في الإنتاج للاستهلاك المحلي أو التصدير، أي بمعنى آخر تتلخص الشراكة بين القطاع العام والخاص في استغلال البنية التحتية التاريخية للشركة العمومية لصالح القطاع الخاص المتمثل أساسا في المستثمرين الأجانب. ينتج عن هذا النموذج تحويل الكهرباء إلى سلعة وتحميل حقيقة الأسعار للمواطنين، فالمستثمر الأجنبي غايته الربح لا تقديم خدمة عامة كالشركة الوطنية للكهرباء والغاز22.
في نفس الاتجاه، تواصل المؤسسات المالية الدولية ضغوطها على الدولة التونسية لمواصلة هذه الإصلاحات. على سبيل المثال، نجد من بين “ما يجب تغييره” حسب استراتيجية البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية في تونس (2018-2023) -أحد أهم الأذرع المالية لمشاريع الطاقات المتجددة في تونس-: “سيطرة الستاغ على القطاع الطاقي (بما فيها المتجددة) والدعم المفرط للطاقة”23. كما يضع البنك من بين أهدافه “مناصرة وتمويل انفتاح القطاعات التي تسيطر عليها الدولة (كالطاقات المتجددة) لمشاركة القطاع الخاص”.
وقد لفت الاهتمام في الفترة الأخيرة المرور للسّرعة القصوى في تنفيذ مشاريع الطاقات المتجددة والإطار التشريعي المتعلق بها مثل القرار الحكومي المتعلق بنقل الكهرباء المتأتية من الطاقات المتجددة الذي أمضاه رئيس الحكومة أحمد الحشاني ستة أشهر بعد تسلّمه لمنصبه (ديسمبر 2023) ومذكّرة التفاهم حول الهيدروجين الأخضر مع شركة توتال في شهر ماي 2024. ولا شك أن انحسار الحركات الاحتجاجية وإضعاف المجتمع المدني والسياسي في ظلّ غياب النقاش العام قد مكّن السلطة من تمرير هذه السياسات الماسّة بالسيادة الوطنية -رغم ما ترفعه من شعارات- وبحق المواطنين.ات في الطاقة، ومكّنت المؤسسات المالية الدولية من تجاوز “ضعف الاجماع الاجتماعي والتوتر الممكن أن ينجرّ عن تبني الإصلاحات الهيكلية (كإلغاء الدعم).. خاصة فيما يتعلق بالقطاعات الأساسية (الطاقة)..” الذي اعتبره البنك الأوروبي للإعمار أحد أخطار ومعوقات مشاريعه في تونس24.
الهيدروجين الأخضر
بعد وضع الاستراتيجة الوطنية لانتاج الهيدروجين الأخضر25 -الممولة من التعاون الألماني-، شهدت تونس تسريعا في إنجاز مشاريع الهيدروجين الأخضر المزمع تنفيذها في في مناطق مثل قابس26. على المستوى التشريعي تقدّم مجموعة من النواب يوم 30 أفريل 2024 بمقترح قانون27 يتعلّق بتشجيع مشاريع الهيدروجين الأخضر وقد تمت إحالته إلى لجنة الصناعة والتجارة والثروات الطبيعية والطاقة والبيئة يوم 9 ماي. وقد عقدت اللجنة جلسة استماع إلى ممثلين عن جهة المبادرة يوم 4 جويلية الفارط.
من جهة أخرى، وقّعت تونس مذكرة تفاهم يوم الاثنين 27 ماي 2024 مع مجمع الشركات الفرنسية “توتال للطاقات” والنمساوية “فاربوند” لتطوير وإنجاز مشاريع للهيدروجين الأخضر في تونس. بمقتضى هذه المذكرة، ستحصل أوروبا على الهيدروجين الأخضر ما يمكنّها من تحقيق أهدافها المتمثلة كما ذكرنا في الترفيع من نسبة الطاقة من مصادر نظيفة ومن تخفيض التبعية تجاه الغاز الروسي مع تحقيق أسواق جديدة لاستثماراتها بما أن الشركات الأروبية ستستفيد من التصنيع وبيع التّكنولوجيا والخبرات اللازمة لهذه المشاريع.
في المقابل، ستوفر تونس الموارد الطبيعية اللازمة لإنتاج الهيدروجين الأخضر، مثل المياه والأرض بتكاليف منخفضة للغاية. ومع ذلك، ستتحمل تونس التداعيات البيئية والاجتماعية الناتجة عن هذه المشاريع، مما يعكس، مرة اخرى، تقسيمًا عالميًا غير عادل للعمل والثروات.
مشاريع مستنزفة للمياه في بلد يعاني من الجفاف
تواجه تونس أزمة مائية حادة، حيث تُصنف من بين الدول التي تعاني من ندرة المياه. بلغ نصيب الفرد من المياه في تونس حوالي 390m3 متر مكعب للفرد سنويًا (حسب منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة سنة 2020)، وهو أقل بكثير من حد الفقر المائي العالمي البالغ 1000 متر مكعب. في هذا السياق، يشكل إنتاج الهيدروجين الأخضر تحديات إضافية، إذ يتطلب كميات كبيرة من المياه لإجراء عملية التحليل الكهربائي.
تحتاج عملية إنتاج كيلوغرام واحد من الهيدروجين الأخضر من 10 الى 15 لترا من الماء ومع ذلك، يقدر أن الكيلوغرام الواحد قد يحتاج من 20 إلى 30 لترا، ويرجع ذلك أساسا إلى عدم فعالية بعض طرق معالجة الهيدروجين في الظروف الطبيعية28. في ظل شح المياه في تونس، سوف يُلجأ إلى تحلية مياه البحر كحل بديل لتلبية احتياجات إنتاج الهيدروجين الأخضر، إلا أن هذه العملية تحمل آثارًا بيئية سلبية. ينتج عن تحلية مياه البحر ما يعرف بالمحلول الملحي المركز، والذي يتم التخلص منه في البحر. هذا يؤدي إلى ارتفاع نسبة الملوحة في المياه البحرية، مما يؤثر سلبًا على الحياة البحرية والتوازن البيئي. الدراسات تشير إلى أن التخلص من المياه المالحة المركز يمكن أن يرفع نسبة الملوحة في المناطق المحيطة بمحطات التحلية بنسبة تصل إلى 50%.29
كما تتطلّب تقنيات الطاقة الشمسية هي الأخرى، كميات كبيرة من المياه لغسل العاكسات الشمسية ولعملية التبريد باستخدام المياه في بيئة صحراوية وهو ما يمثل تهديدا كبيرا للموارد المائية في تونس. في مقارنة بالتجربة المغربية، دعت العديد من الشركات الألمانية الكبرى في مشروع مجمع نور للطاقة الشمسية في المغرب الى اعتماد تقنية CSP وتم اعتماد هذه التقنية دعما لمصالح الشركات الألمانية المصنعة ودعمت من البنك الدولي وبنك التنمية الألماني رغم الاستخدام المكثف للمياه التي تستجوبه هذه الطاقة. يجدر بالذكر ان المغرب، كنظيرته تونس يعاني من “ازمة مائية هيكلية”، وفقًا للبنك الدولي. وقد قدرت دراسة الأثر البيئي التي أُجريت قبل بدء المشروع أن استهلاك المياه السنوي المنتظر يبلغ 6 ملايين متر مكعب في حين تبيّن أن نسبة الاستهلاك الفعلي للموارد المائية كانت أعلى بشكل ملحوظ. يذكر أن المجمع رفض ان يصرّح بالنسب الحقيقية لاستهلاكه من الموارد المائية.30
المسألة العقارية: خطر الاستيلاء على الأراضي
في مرحلة ثانية من “تطوير” الإطار التشريعي لتسهيل مشاريع الطاقات المتجددة، مع احتدام الإشكاليات المتعلقة بالأراضي، استعمل الرئيس قيس سعيد سلطة المراسيم لرفع العقبات الموجودة أمام استغلال الأراضي الدولية والفلاحية لهذه المشاريع حيث استثنى المرسوم عدد 68 لسنة 2022 المؤرخ في 19 أكتوبر 2022 المتعلّق بضبط “أحكام خاصّة بتحسين نجاعة إنجاز المشاريع العمومية والخاصّة”، كلّ مشاريع الطاقة المتجددة (لا فقط للاستهلاك الذاتي) من شرط تغيير صبغة الأراضي الفلاحيّة، “في صورة ثبوت جدوى إنجازها من قبل اللجنة الفنية للإنتاج الخاص للكهرباء من الطاقات المتجددة”31. وقد تضمّن هذا المرسوم ذاته أيضا تنقيحا لقانون إصلاح الأوضاع الفلاحية، يفتح باب استغلال الأراضي الفلاحية لرؤوس الأموال الأجنبيّة بمجرّد تكوين شركات في تونس، من دون اشتراط مشاركة تونسيين في رأس مالها وإدارتها. يذكر أن محاولات تمرير هذا الإجراء قد سقطت في مجلس نواب الشعب أكثر من مرّة خلال سنوات الانتقال الديمقراطي32.
بعنوان التسريع في إنجاز المخطط الشمسي التونسي واستجابة لإملاءات المؤسسات المالية العالمية، قامت الدولة التونسية بالاستيلاء على أراض محل نزاع لم تُسوّ وضعيتها بعد وذلك عبر إصدار خمس لزمات مصادق عليها بمراسيم بعد 25 جويلية 2021 تمّ بموجبها منح مجمع فرنسي-مغربي33 قرابة 400 هكتار من الأراضي الاشتراكية التابعة لمجال أولاد سيدي عبيد التي يشرف عليها مجلس التصرف حسب القانون المتعلق بالأراضي الاشتراكية الصادر سنة 1964 والمنقح في 2016، بعد أن تم ضمّها لملك الدولة في وقت سابق. هكذا، استغلت الدولة مستغلة ضبابية الرؤية بخصوص هذا الصنف من الأراضي لتتيح استغلالها للمستثمرين الأجانب، مع استثنائهم حسب نصّ المرسوم من ضوابط قانون حماية الأراضي الفلاحيّة34. من ناحية أخرى تمّ في الفترة الأخيرة التسريع في وتيرة إبرام عقود كراء الأراضي الفلاحية لمشاريع الطاقات المتجددة بأثمان بخسة (على سبيل المثال 1200 دينار الهكتار في السنة) تحت ضغط السلط المحلية35 في مناطق مختلفة منها شنني، قبلي، قابس، إلخ.36
خاتمة: لا انتقال طاقي عادل دون ديمقراطية
رغم أن الخطاب السائد حول “التنمية المستدامة” أو “الاقتصاد الأخضر” ينادي في ظاهره ببدائل طاقية تبشّر بانتقال عادل، إلا أنها في معظم الأحيان مصطلحات مفرغة من أي محتوى ولا تعبّر عن أي تغيير حقيقي في المنظومة الاستخراجية السائدة. يفترض مفهوم “الانتقال العادل” أن العدالة يجب أن تكون في قلب جميع الحلول المناخية، وأن أي استجابة لأزمة المناخ يجب أن تعالج الأبعاد الهيكلية للنموذج الطاقي القائم على الاستخراج، وألا تهمل الأبعاد الطبقية والسيادية والديمقراطية.37 من الضروري إذن عدم اعتبار الانتقال الطاقي مجرد استبدال للطاقات الأحفورية بالطاقات المتجددة -وهو المسار الذي تفرضه الشركات والحكومات الغربية- فهو بهذا الشكل لا يتعدى كونه توسعا طاقيا لا انتقالا طاقيا.
يتبيّن لنا إذن أن ما يطلق عليه عبارة الانتقال الطاقي في السياق التونسي لا يتضمّن مشاريع لتنويع مصادر الطاقة التي يتطلبها المجتمع التونسي، بل يشير لمواصلة نفس النموذج الطاقي مع توفير الأراضي، المياه والبنية التحتية التونسية لصالح المستثمرين الأجانب ولغاية التصدير. كما أنّ هذه المشاريع مرتبطة آليا بالاقتراض من المؤسسات المالية الدولية لإنجازها وهو ما يؤدي بالبلاد إلى مزيد التداين. وقد كان آخر هذه القروض الاتفاقيات الثلاثة التي تم المصادقة عليها في “مجلس نواب الشعب” لتمويل مشروع ELMED الهادف لتحقيق الترابط الكهربائي بين تونس وبإيطاليا ولدعم انتاج الطاقات المتجددة والذي مثّل استكمال تمويله أحد بنود مذكرة التفاهم التي أمضاها قيس سعيد في جويلية 2023 مع الاتحاد الأروبي38. ويتلخص محتواها في تقديم مساعدات مالية لتونس وغض النّظر عن مسألة الحقوق والحريات مقابل مواصلة الدولة التونسية محاربة الهجرة غير النظامية والتعاون في الترحيل القسري للمهاجرين التونسيين من فضاء شينقن أو المهاجرين الذين يتم إيقافهم في البحر وتنفيذ المشاريع الطاقية الأروبية، أي عودة إلى وضعية تشبه إلى حدّ كبير ما كان عليه الحال أثناء فترة حكم بن علي.
من جهة أخرى وعكس ما يروّج له، لا تتضمن مشاريع الطاقة المتجددة نقلا للتكنولوجيا كما أنّ طاقتها التشغيلية محدودة. وستكون الدول المصنّعة لهذه التكنولوجيا ونسيجها الاقتصادي هي المستفيدة من هذه المشاريع بشكل يحافظ على التقسيم العالمي للعمل أين تصدّر دول الشمال التكنولوجيا والمنتجات الصناعية ذات القيمة المضافة العالية، بينما توفر دول الجنوب المواد الخام واليد العاملة الرخيصة. إن كانت تونس تستفيد جزئيًا من الطاقة الشمسية لتلبية حاجياتها المحلية، فهي لا تستفيد من الهيدروجين الأخضر الموجّه أساسا للتصدير دون أي فائدة تذكر للنسيج الصناعي التونسي كما أنه يتطلب تحلية كمية كبيرة من مياه البحر لن توجّه لحلّ معضلة العطش أو للفلاحة. بالإضافة إلى مسألة المياه الجوهرية في هذا الملف، لا يتمّ التنبيه للمسألة العقارية بما يكفي رغم خطورتها، حيث يجري الاستيلاء على أراضي اشتراكية وفلاحية دون تسوية وضعيتها العقارية باستعمال أساليب ضغط متنوعة دون اعتبار ما يمكن أن ينجرّ عن ذلك من توتّر اجتماعي.
يكشف الملف الطاقي مرة أخرى زيف الخطاب السيادوي للسلطة القائمة، حيث تتحجج بالسيادة الوطنية عندما يطالبها المجتمع المدني باحترام تعهداتها الدولية في علاقة باحترام الحقوق والحريات بينما تنضبط بشكل مفضوح لإملاءات الطرف الأروبي في ملفات حارقة وماسة فعلا بالسيادة وبالموارد الحياتية للتونسيين.ات كالأراضي الفلاحية والموارد المائية. كما تنكشف هذه السيادة الخاوية39 في ملف الهجرة الذي تلعب فيه الدولة التونسية دور حرس الحدود للطرف الإيطالي وتغضّ النظر عن مسؤولية الجارين الجزائري والليبي في مأساة المهاجرين.
أخيرا، يظهر تحرّج السلطة من هذا الملف في تعاملها مع الحركات الاحتجاجية البيئية، حيث تعرّض مناضلو حركة Stop Pollution بقابس لمضايقات وضغوطات من طرف مناصري رئيس الجمهورية أثناء تنظيمهم لمسيرة إحياء لقرار تفكيك الوحدات الصناعية للمجمع الكيميائي لمحاولة دفعهم إلى إلغاء المسيرة، إذ اتهمتهم بعض الصفحات المحسوبة على السلطة بـ”تأجيج الأوضاع خدمة لخصوم مسار 25 جويلية”. وكما كان الحال في ملفات أخرى كحركة 18/18 بجرجيس، تُظهر هذه العناصر أنّ أيّ حركة اجتماعية مهما كان نبل قضيتها لا يمكن أن تتناولها بمعزل عن قضية الحرية الأساسية، وأن السّلطة الشعبوية رغم توظيفها لخطاب وشعارات الحركات الاجتماعية لا يمكن أن تكون حليفا لها إن هي لم تخدم أجندتها.
- Newell and Phillips (2016): Neoliberal energy transitions in the South: Kenyan experiences, Geoforum, Volume 74, 2016, Pages 39-48. ↩︎
- Geels (2002): Technological transitions as evolutionary reconfiguration processes: a multi-level perspective and a case-study, Research Policy, Volume 31, Issues 8–9, Pages 1257-1274. ↩︎
- Geels (2011): The multi-level perspective on sustainability transitions: Responses to seven criticisms, Environmental Innovation and Societal Transitions, Volume 1, Issue 1, 2011, Pages 24-40. ↩︎
- espaces ↩︎
- Newell, P and Mulvaney, D. (2013): The political economy of the ‘just transition’ The Geographical Journal, 2013, doi: 10.1111/geoj.12008Hmza ↩︎
- Bayliss, Kate & Fine, Ben. (2008). Privatization and Alternative Public Sector Reform in Sub-Saharan Africa: Delivering on Electricity and Water. ↩︎
- Friends of the Earth International, If it’s Not Feminist, it’s Not Just, 2021, https:// tinyurl.com/4j9dd8u9; Indigenous Environmental Network, Indigenous Principles of Just Transition, 2017 ↩︎
- Hamouchene, H., & Sandwell, K. (2023), Dismantling Green Colonialism Energy and Climate Justice in the Arab Region, Pluto Press, Transnational Institute. ↩︎
- إيمان اللواتي – منظمة روزا لوكسمبورغ (نوفمبر 2022): تونس، فيما يتلخص الانتقال الطاقي؟ ↩︎
- Chiffres de l’ONE, cité dans ITCEQ (2017) : Politique énergétique en Tunisie, Note et Analyses de l’ITCEQ, N°55-Mai 2017 ↩︎
- Observatoire Nationale de l’Energie (Décembre 2023) : Conjoncture énergétique ↩︎
- إيمان اللواتي – منظمة روزا لوكسمبورغ (نوفمبر 2022)، تمّ ذكره ↩︎
- OTE (2022), op. cit. p6 ↩︎
- Observatoire Tunisien de l’Economie-Transnational Institute (2022) : Les énergies « renouvelables » en Tunisie : une transition injuste, Briefing Paper N°12 ↩︎
- Hamouchene, H., « Desertec: the renewable energy grab? », New Internationalist, 01 March 2015. ↩︎
- Observatoire Tunisien de l’Economie- (2015) : « Desertec ou le plan B de l’Europe face à la menace russe », Note analytique.s ↩︎
- إيمان اللواتي – منظمة روزا لوكسمبورغ (نوفمبر 2022)، تمّ ذكره ↩︎
- Hamouchene, (2015), op. cit. ↩︎
- مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة – المفكرة القانونية (19 مارس 2024): في الجنوب التونسي: الاستحواذ على الأرض لصالح الرأسمالية الخضراء ↩︎
- وهو شكل من أشكال الدعم غير المباشر للطاقة ↩︎
- المرصد التونسي للاقتصاد: تداعيات إصلاحات صندوق النقد الدولي على المرفق العمومي للكهرباء -صور توضيحية (12 ماي 2023) ↩︎
- منظمة البوصلة (4 أفريل 2024) -لقاء حواري: الانتقال الطاقي والاستثمارات “الخضراء” في تونس: سياسات تعسّفية لصالح المستثمرين الأجانب؟ -مداخلة صابر عمار ↩︎
- European Bank for Reconstruction and Development: Tunisia Country Strategy as approved by the Board of Directors on 12 December 2018 ↩︎
- EBRD (2018), op,cit. ↩︎
- Ministère de l’industrie (06/09/2023) : Stratégie nationale pour le développement de l’hydrogène vert et ses dérivés en Tunisie ↩︎
- اكسبراس اف ام (26/06/2024): قابس: توفر الأرضية المناسبة لتركيز مشاريع الهيدروجين الأخضر ↩︎
- مقترح قانون عدد 2024/038 يتعلق بتشجيع مشاريع الهيدروجين الأخضر ↩︎
- Lampert, D. J., Cai, H., Wang, Z., Keisman, J., Wu, M., Han, J., Dunn, J., Sullivan, J. L., Elgowainy, A., & Wang, M. (2015). Development of a Life Cycle Inventory of Water Consumption Associated with the Production of Transportation Fuels. ↩︎
- منظمة البوصلة (6 جوان 2024)- بودكاست مجالات: “إنتاج الهيدروجين الأخضر في تونس: حلّ لأزمة الطّاقة أم إستعمار نظيف؟“، ضيف الحلقة الباحث والناشط في حملة Stop Pollution صابر عمار ↩︎
- Aïda Delpuech et Arianna Poletti- Inkyfada, (11 novembre 2022) : TuNur : les zones d’ombre derrière l’export du soleil tunisien vers l’Europe ↩︎
- مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة – المفكرة القانونية (2024)، تم ذكره ↩︎
- المصدر نفسه ↩︎
- الصفقة التي كانت قد منحت في جوان 2021 للمجمع الفرنسي-المغربي ENGIE- NAREVA لتركيز محطة فوطوضوئية بقدرة جملية تساوي 100 ميغاوات بمنطقة سقدود التابعة لمعتمدية الرديف من ولاية قفصة. ↩︎
- مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة – المفكرة القانونية (2024)، تم ذكره ↩︎
- منظمة البوصلة (4 أفريل 2024) -لقاء حواري، تم ذكره ↩︎
- المصدر نفسه ↩︎
- Hamouchene, H., & Sandwell, K. (2023), op. cit, p11. ↩︎
- Commission Européenne – Communiqué de Presse : Mémorandum d’entente sur un partenariat stratégique et global entre l’Union Européenne et la Tunisie. Tunis le 16 juillet 2023 ↩︎
- المفكرة القانونية – تونس (العدد 27: جويلية-سبتمبر 2023) ↩︎