سـارعت العديد من الدول منذ نهاية القرن الماضي لإيجاد تشـريعات خاصة قصد مكافحة الجرائم الإلكترونية، وبكونها جرائم عابرة للقارات صدرت اتفاقية بودابيست سنة 2001 المتعلقة بالجريمة الإلكترونية، والتي تهدف إلى تعزيز التعاون الدولي والإقليمي لدرء مخاطر هذه الجرائم.
غالبا ما يترتب عن الجريمة الإلكترونية ضرر جسيم للأفراد أو المؤسسات، ويكون في أغلب الأحيان الدافع من وراء ارتكابها ابتزاز الضحية وتشويه سمعتها من أجل تحقيق مكاسب مادية وذلك باستخدام الحاسوب ووسائل الاتصال الحديثة مثل الإنترنت.
تتشابه الجريمة الإلكترونية مع الجريمة العادية في عناصرها من حيث وجود الجاني والضحية وفعل الجريمة، ولكن تختلف عن الجريمة العادية باختلاف البيئات والوسائل المستخدمة، فالجريمة الإلكترونية يمكن أن تتم دون وجود الشخص مرتكب الجريمة في مكان الحدث، كما أن الوسيلة المستخدمة هي التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصال الحديثة والشبكات المعلوماتية.
ومن أكثر الجرائم الإلكترونية انتشارا على سبيل المثال جريمة انتحال الشخصية، إذ يستدرج المجرم الضحية ويستخلص منها المعلومات بطرق غير مباشرة، من أجل الاستفادة منها واستغلالها لتحقيق مكاسب مادية. كذلك تفاقمت جريمة تهديد الأفراد في السنوات الأخيرة وهي جريمة يقوم من خلالها الجاني بقرصنة وسرقة معلومات شخصية وخاصة جداً بالنسبة للضحية، ثم يقوم بابتزازها من أجل كسب الأموال أو تحريضها للقيام بأفعال غير مشروعة.
كما تستهدف الجريمة الإلكترونية المؤسسات والشركات الكبرى وذلك باختراق الأنظمة، مما يتسبب بخسائر مادية كبيرة زد إلى ذلك الخسائر الناجمة عن تدمير النظم مما يؤثر حتما على الوضع الاقتصادي للدول.
كما يمكن أن تستهدف الجرائم الإلكترونية أمن الدولة من خلال برامج التجسس، وذلك بزرع تطبيقات أو أنظمة إلكترونية داخل المؤسسات تمكّن على سبيل المثال من الاطلاع على مخططات عسكرية تخص أمن البلاد، لذلك فهي تعتبر من أخطر الجرائم المعلوماتية.
ما من شك اليوم أن تونس تأخرت في وضع قانون لمكافحة الجرائم الإلكترونية، خاصة وأن أغلب الدول المتقدمة سنّت قوانين في الغرض منذ أواخر القرن الماضي وذلك لوعيها بتداعيات هذه الجرائم على سلامة الأفراد والدولة.
تحرص الدول الديموقراطية عند سنّ القوانين المقيّدة للحقوق والحريات على استعمال أقل الوسائل تدخلا لعدم إلغاء الحق، كما غالبا ما يتمتع القضاة بسلطة واسعة بغاية الدفاع عن الحريات. إلا أن الأنظمة الدكتاتورية تتخذ من قوانين مكافحة الجريمة الإلكترونية مثلا غطاء لإلغاء حقوق أخرى على غرار الحق في الخصوصية والحق في حريّة التعبير دون تهديد أو ترويع.
وفي هذا السياق، أصدر رئيس الجمهورية بتاريخ 13 سبتمبر 2022 المرسوم عدد 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال.
ويعتبر المرسوم 54 خطوة جديدة يقوم بها النظام الحاكم نحو تشديد الرقابة على الأفراد وترويع الصحفيين والصحفيات وكل منتج أو ناشر لمحتوى على شبكة الأنترنت. إذا جاء المرسوم 54 بفصول ومصطلحات فضفاضة وعقوبات زجرية تفتح أبواب السجون التونسية على مصرعيها أمام كل شخص يمتلك جهاز حاسوب أو هاتف ذكي متصل بالشبكة.
في واجب الحفظ: تناسي الحق في النسيان
فرض الفصل 6 من المرسوم 54 على مزودي خدمات الاتصال أن يحفظوا البيانات المخزنة في نظام معلوماتهم الخاص لمدّة لا تقل عن سنتين. في المقابل لم تحدد المدّة الزمنية القصوى لحفظ البيانات، فقد أحال المرسوم 54 سلطة تقدير المدة الزمنية لكل من وزير الدفاع الوطني والداخلية والعدل والاتصالات بمقتضى قرار مشترك.
ومن البيانات الواجب حفظها تلك التي تمكن من التعرف على مستعملي الخدمة والمتعلقة بحركة الاتصال والأجهزة الطرفية للاتصال والموقع الجغرافي للمستعل والبيانات المتعلقة بإتاحة واستغلال محتوى ذي قيمة مضافة محمي.
رغم أن المعطيات الواجب حفظها يمكن أن تحتوي على معطيات شخصية حساسة، لم يحدد المرسوم مدّة زمنية معقولة تعفي مزودي الخدمات من واجب الحفظ. حيث لا شيء يمنع الوزراء السالف ذكرهم من تحديد المدة الزمنية لحفظ البيانات لعشرين عام على سبيل المثال، وهذا من شأنه أن يهدد الحق في النسيان وهو من أهم الحقوق التي نصت عليها المعاهدات الدولية والاتفاقات الإقليمية.
كما لم يتطرق المرسوم للضمانات القانونية المتعلقة بحقوق الأفراد من قبيل الحق في النفاذ للبيانات المخزنة والحق في الحصول على نسخة من هذه المعطيات، كما تناسى المرسوم 54 الحق في معرفة عمليات المعالجة للمعطيات المخزنة. وإن كانت بعض الحقوق المذكورة غير منصوص عليها صراحة صلب قانون 27 جويلية 2004 المتعلق بحماية المعطيات الشخصية، إلا أنها حقوق متفق عليها منذ أواخر القرن الماضي وتبنتها العديد من الدول في قوانينها الوطنية وخاصة داخل الفضاء الأوروبي. وبالتالي كان من الاجدر على الأقل تنقيح قانون حماية المعطيات الشخصية المعطّل منذ سنوات لحماية الافراد بغاية مطابقته مع المعايير الدولية، وهذا ما طالبت به الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية منذ سنوات.
إلا أن نيّة المشرع لم تسلك هذا الاتجاه باعتبار أنه مازال يعتبر الحقوق الرقمية “غير مهمة” أو ليست “ذات أولوية” بالمقارنة بباقي الحقوق، كذلك في غياب قانون ناجع وهيئة لحماية المعطيات الشخصية تتمتع بصلاحيات واسعة وقضاء متمكن من الحقوق الرقمية ستبقى خصوصية المواطنين والمواطنات مستباحة سواء من طرف أجهزة الدولة أو القطاع الخاص.
إن الاتفاقيات الدولية و ان تعطي الحق للحكومات في تحديد العقوبات و الإجراءات الواجب اتباعها من خلال قوانينها الوطنية المتعلقة بمكافحة الجريمة الالكترونية، إلا أنها تفرض في الآن ذاته أن تكون العقوبات متناسبة ومقيّدة بضوابط، على غرار ما جاء في القرار عدد 5029/71 للمحكمة الاوروبية لحقوق الانسان حيث أكدت المحكمة على أنه “من خصائص الأنظمة البوليسية مراقبة المواطنين بطريقة سريّة، و هذا غير مقبول، إلا إذا كان لضرورة قصوى بغاية حماية المؤسسات الديموقراطية” و بالتالي إن كان الشغل الشاغل لرئيس الجمهورية حماية المؤسسات الديموقراطية، كان من باب أولى و أحرى الحفاظ على العديد من المكتسبات التي تم التراجع عنها و تنقيح القوانين التي تمسّ بالحقوق الرقمية قصد التطابق مع المعايير الدولية و فرض حماية ناجعة للموطنين و المواطنات لا لأجهزة الدولة.
إن واجب الحفظ لمدة زمنية غير محددة مسبقا و بعبارات دقيقة و مفهومة يمكن أن يطرح العديد من المشاكل الأخرى، إذ يحمل على مزودي الخدمة الحفاظ على البيانات بطريقة تضمن سلامتها و دقتها، فبالإضافة للتكلفة الباهظة للقيام بهذه المهمة و في ظل تزايد الجرائم الإلكترونية فإنه في طول مدّة الحفظ خطر محقق على المعطيات الشخصية للأفراد التي كما ذكرنا يمكن أن تكون معطيات حساسة على غرار المعطيات الطبية التي تتصدر قائمة المعطيات المنتهكة في العالم خاصة بعد أزمة كورونا، و كذلك المعطيات البنكية التي أصبحت مهددة بشكل أكبر في تونس في ظل تزايد محاولات الاعتداء على البنوك التونسية و الشركات الكبرى على غرار ما يقع في سائر دول العالم، إلا أن هذه المؤسسات المالية غالبا ما تتكتم عن هذه الهجمات الإلكترونية حفاظا على سمعتها التجارية غير مكترثين بحقوق الافراد مثل إعلامهم بقرصنة معطياتهم الحساسة.
سلطة مطلقة في معاينة الجرائم وغياب هيكل رقابي
صدر سنة 2013 الأمر عدد 4506 المتعلق بإحداث الوكالة الفنية للاتصالات، وقد أثار صدور هذا الامر استنكار منظمات المجتمع المدني في تونس، فبالإضافة لحساسية المهام المناطة للوكالة الفنية للاتصالات مثل معاينة جرائم أنظمة المعلومات وتأمين الدعم الفني للأبحاث العدلية، طرح أمر إحداثها مشكل قانوني، إذ لا يمكن بمقتضى أمر حكومي إحداث وكالة بهذه الأهمية التي تنبش معطيات المواطنين والمواطنات عند تنفيذها لمهامها مما يشكل خرق صارخ للدستور بما في ذلك دستور 1959 في فصلة التاسع.
بعد صدور المرسوم 54، أصبحت المهام الموكلة للوكالة الفنية للاتصالات فيما يخص معاينة الجرائم وتنفيذ أذون الاعتراض والنفاذ من مهام وكلاء الجمهورية ومساعدوهم ومأمورو الضابطة العدلية ومأمورو الضابطة العدلية العسكرية والأعوان الراجعون بالنظر للوزارة المكلفة بالاتصالات بمقتضى قوانين خاصة.
استوعب المرسوم 54 أهم ما جاء في الأمر الحكومي عدد 4506 لسنة 2013. وهو ما يؤكد تجاهل السلطة الحالية للخروقات القانونية والتهديدات الجادة للحقوق والحريات التي نادت بتعزيزها منظمات المجتمع المدني في العديد من المحطات.
وبالرجوع للفصل 6 من المرسوم نجد أن المعطيات التي يجب حفظها غير متناسبة مع الغاية والضرورة وذلك لكثرتها وحساسيتها، كما يشكل عدم تحديد قائمة حصرية في من يخول لهم الاطلاع ومعاينة الجرائم وجمع الأدلة تهديدا صريحا للحق في الحياة الخاصة والحق في الخصوصية. وفي هذا السياق أصدرت محكمة التعقيب الفرنسية في جويلية الماضي قرار يقضي بتقليص المعطيات الواجب حفضها و الحد من الولوج إليها، و قد أكدت المحكمة على أن المعطيات التي يتم حفظها تحتوي حتما على بيانات حساسة لا يجب أن يتم الاطلاع عليها من قبل عدد كبير أو غير محدد من الأشخاص على غرار المعطيات المتعلقة بالآراء السياسية و النقابية و التوجهات الفلسفية و الجنسية و العقائدية، و أكدت محكمة التعقيب الفرنسية في نفس السياق أن القاضي الفرنسي يجب أن يتخلى على القاعدة القانونية الوطنية إذا كانت تتعارض مع المعاهدات الدولية و الأوروبية باستثناء الجرائم الخطيرة التي تهدد سلامة الأمن القومي أو الجرائم المنظمة كتجارة المخدرات.
بالإضافة لعدم التنصيص صلب المرسوم 54 على تقليص الأشخاص المخول لهم الولوج للبيانات المخزنة، تم تناسي الضمانات القانونية في صورة الاطلاع عليها من طرف باقي أجهزة الدولة. إذ لم يتم إحداث هيكل مستقل أو هيئة وطنية كاملة الصلاحيات لمراقبة التجاوزات التي يمكن أن ترافق عملية معاينة الجرائم وتنفيذ أذون الاعتراض و النفاذ قصد التأكد من سلامة الإجراءات و عدم المسّ بالحقوق و الحريات، و هو ما يتعارض مع الاتفاقيات و المعايير الدولية التي حتى و إن أسندت مثل هذه الرقابة للسلطة القضائية أوصت بفرض رقابة بعدية عند القيام بإجراءات مماثلة، و في ظل الصراع الذي تعيشه السلطة القضائية اليوم مع رئاسة الجمهورية (مما أدى للمس من استقلاليتها) تبقى مهمة حماية حقوق الأفراد و خصوصيتهم بيد السلطة التنفيذية.
في الإشاعة والاخبار الزائفة: إطلاق رصاصة الرحمة على حرية التعبير
ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من المواقع الإلكترونية في انتشار ملايين الأخبار الزائفة والإشاعات يوميا، وقد اتخذت العديد من الدول الديموقراطية بطبيعة الحال عدّة تدابير قصد مكافحة هذه الظاهرة قصد حماية حقوق الأفراد.
إلا أن بعض الدول على سبيل المثال كالسعودية ومصر وسوريا وباكستان اتخذت من ظاهرة الأخبار الزائفة ذريعة لإلغاء الحق في حرية التعبير على إنترنت وذلك بإصدار قوانين زجرية غير متناسبة مع المعايير الدولية.
وبصدور المرسوم 54، انضمت تونس لنادي الدول المعادية لحرية التعبير تحت غطاء مكافحة الجريمة الإلكترونية، إذ “تسرّب” للمرسوم الفصل 24 الذي أطلق رصاصة الرحمة على أهم مكتسب من مكسبات الثورة.
وجاء بالفصل 24 “يعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها خمسون ألف دينار كل من يتعمد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتّصال لإنتاج أو ترويج أو نشر أو إرسال أو إعداد أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزورة أو منسوبة كذبا للغير بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني أو بث الرعب بين السكان.
ويعاقب بنفس العقوبات المقررة بالفقرة الأولى كل من يتعمد استعمال أنظمة معلومات لنشر أو إشاعة أخبار أو وثائق مصطنعة أو مزورة أو بيانات تتضمن معطيات شخصية أو نسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالغير أو تشويه سمعته أو الإضرار به ماديا أو معنويا أو التحريض على الاعتداء عليه أو الحث على خطاب الكراهية. وتضاعف العقوبات المقررة إذا كان الشخص المستهدف موظفا عموميا أو شبهه.”
ولفهم فلسفة واضع المرسوم يكفي أن نحدد أين “تسرّب” الفصل 24، إذ ورد صلب القسم الثاني في الجرائم المرتكبة بواسطة أنظمة أو بيانات معلوماتية تحت القسم الفرعي الثالث في الإشاعة والأخبار الزائفة. وفي وجود الفصل المذكور مع الجرائم الأخرى مثل الاحتيال المعلوماتي أو التدليس المعلوماتي مع التنصيص على العقوبات السالبة للحرية ذاتها دليل على أن النظام يواصل بخطى ثابته نحو إلغاء حرية التعبير.
ما من شك أن المشرّع بإمكانه وضع ضوابط على الحقوق لحماية مصالح مشروعة مثل حقوق الغير أو الأمن القومي. إلا أن تقييد الحقوق والحريات لا يمكن أن يكون بوضع نصوص زجرية غامضة المصطلحات وتجرّم أفعال غير دقيقة وهذا يتعارض مع فلسفة التشريع في المادة الجزائية التي تقتضي صياغة واضحة ونصوص دقيقة واستعمال مصطلحات غير فضفاضة عند تجريم الأفعال.
إلا أن الفصل 24 وغيره من مرسوم 54 تجاهل قواعد صياغة النص الجزائي مما سيؤدي حتما إلى إطلاق يد السلطة التقديرية للسلطات الأمنية والقضائية لتتبع الصحفيين/ات والمدونين/ات والناشطين/ات في المجتمع المدني والسياسيين/ات وعموم المواطنين/ات وهو ما يتعارض مع المعايير الدولية والقوانين المقارنة التي اتخذت من الخطية المالية عقوبة نشر الإشاعات والاخبار الزائفة بدلا من العقوبات السالبة للحرية.
كما يخرق الفصل 24 من المرسوم 54 الضوابط الدستورية المنصوص عليها بالفصل 55 من الدستور الواجب احترامها عند تقييد الحقوق والحريات، إذ لم يحترم واضع المرسوم شروط الضرورة والتناسب عند صياغة الفصل ،24 ويقصد بالتناسب أن تكون التدابير التي تمسّ بالحقوق والحريات متناسبة لتحقيق وظيفتها الحمائية، كما يجب أن تكون أقل الوسائل تدخلاً مقارنة بغيرها من الوسائل التي يمكن أن تحقق النتيجة المنشودة، ويجب أن تكون متناسبة مـع المـصلحة التي ستحميها. وبعد إلغاء الرئيس لهيئة مراقبة دستورية القوانين و في غياب محكمة دستورية مستقلة تنتفي أي رقابة على القوانين التي تتعارض مع الدستور.
إذ أقرّ الفصل 24 عقوبات زجرية لجريمة نشر الأخبار الزائفة أو إشاعات كاذبة ووضعها في نفس المستوى مع باقي الجرائم مثل الثلب والشتم. بل أكثر من ذلك، إذا كانت الأخبار الزائفة تتعلق بموظف أو شبه موظف ترتفع العقوبة لعشرة سنوات سجن و100 ألف دينار خطية في دولة تتزايد فيها الطوابير يوميا لاقتناء مادّة السكّر وغيرها.
كما يفهم من الفصل 24 أن المشرّع يعتبر الأخبار الزائفة أشد خطورة من نشر محتوى إباحي لقاصر الذي حسب الفصل 26 يستوجب عقوبة بستة سنوات سجن وخطية قدرها 50 ألف دينار. وبالتالي لا مجال للشك أن المرسوم 54 جاء في ظاهره ليكافح الجريمة الإلكترونية إلا أنه في باطنه جاء ليكافح حرية التعبير على أنترنت ولإرساء حصانة غير مشروعة للموظف العمومي وشببه في تعارض صارخ مع مبدأ المساواة بين الأفراد أمام القانون.
وتتجلى كذلك مكافحة حرية التعبير والعمل الصحفي الحرّ من خلال ما ورد بالفصل 9 من المرسوم، حيث مكّن الأجهزة الأمنية من طلب البيانات المعلوماتية المخزنة بنظام أو حامل معلوماتي أو المتعلّقة بحركة اتصالات أو بمستعمليها أو غيرها من البيانات التي من شأنها أن تساعد على كشف الحقيقة، وبحجز كامل نظام معلومات أو جزء منه أو حامل معلوماتي، بما في ذلك البيانات المخزنة به والتي من شأنها أن تساعد على كشف الحقيقة.
إن ما ورد بالفصل 9 من المرسوم يشكّل تهديدا صريحا لحق الصحفيين في سرية المصادر المنصوص عليه بالفصل 11من المرسوم عدد 115 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر، والذي اشترط، للحصول على المعلومات التي بحوزة الصحفيين، وجود إذن قضائي وبشرط أن تكون تلك المعلومات متعلقة بجرائم تشكل خطرا جسيما على السلامة الجسدية للغير، وأن يكون الحصول عليها ضروريا لتفادي ارتكاب هذه الجرائم وأن تكون من فئة المعلومات التي لا يمكن الحصول عليها بأي طريقة أخرى. والتالي صادر الفصل 9 من المرسوم الحق في سرية المصادر وهو من أهم الحقوق في المجال والضامن لممارسة العمل الصحفي بكل حرية.
كما جاء بالفقرة الثانية من الفصل 26 أنه يعاقب بالسجن مدة ستّة سنوات وخطية قدرها 50 ألف دينار كل من يقوم بنشر أو بث صور أو مقاطع تصويرية لاعتداء جسدي على الغير. وجاءت الفقرة الثانية من الفصل 26 في القسم الثالث المتعلق باستغلال الأطفال والاعتداءات الجسدية، فالواضح من خلال الفصل المذكور أن المشرع يساوي بين جريمة شديدة الخطورة والمتمثلة في نشر أو انتاج محتوى إباحي لقاصر وجريمة نشر صور اعتداء جسدي على الغير، مما يؤكد عدم التناسب بين الفعل المذكور والعقوبة المقررة لهذه الجريمة. كما سيؤدي هذا الفصل لترهيب المواطنين والمواطنات الذين يقومون بتصوير اعتداءات جسدية من طرف أجهزة الدولة التي رغم تواصلها لم يفصل القضاء في أغلبها، وبالتالي سيلغي هذا الفصل صحافة المواطنة وسيضع كل شخص أو مبلّغ عن إنتهاك جسيم للحرمة الجسدية إما أمام السجن والخطية المالية أو الحجب الذاتي مما يدعم الحصانة القانونية للموظف أو شببه. وبالتالي حسب ما جاء به المرسوم 54 لم يعد بالإمكان نشر مقاطع تصويرية ساعدت على تحريك النيابة العمومية في وقت سابق مثل ما وقع مع القاصر الذي نزعت ملابسه أو الاعتداء على المحتجين في جانفي 2021 والقائمة تطول.
ساعدت النصوص الزجرية والغير المتناسبة على سقوط النظام السابق خاصة بعد ما تزايد ربط المواطنين والمواطنات بشبكة الانترنت، إذ لا يمكن لأي دولة مهما كانت معادية للحقوق والحريات أن تتحكم بقبضة من حديد في محتوى ينشر على إنترنت بمجرّد سن قوانين في الغرض.
لم تعد تعتمد اليوم الدول والأنظمة الديموقراطية على النصوص السالبة للحرية لتعديل المحتوى على شبكات التواصل أو غيرها من المواقع، بل اتخذت أساليب أخرى مثل تكثيف الجانب التوعوي لدى الأفراد والقصر. وقد أثبت هذا التوجه ناجعته في العديد من الدول على غرار دولة إستونيا.
التوصيات
- سحب المرسوم 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال.
- اقتراح مشروع قانون يتعلق بالجرائم الإلكترونية تتم مناقشته بطريقة شفافة وتشاركية، وتأخذ بعين الاعتبار توصيات المجتمع المدني
- تنقيح قانون حماية المعطيات الشخصية أو سنّ قانون جديد متطابق مع المعايير الدولية والأخذ بتوصيات الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية وتعزيز صلاحياتها ومواردها المالية
- إحداث هيكل رقابي مستقل ماديا وإداريا يختص بمتابعة العمليات المتعلقة بمعالجة المعطيات الشخصية وسلامة الإجراءات عند معاينة الجرائم الإلكترونية
- إدراج مادة التربية الرقمية في برامج التعليم الابتدائي وتكثيف العمل على الجانب التوعوي