بعد مرور أكثر من 35 سنة من تبنّي تونس برنامج الإصلاح الهيكلي و بعد تعاقب الحكومات على اختلاف أشكالها خاصة بعد ثورة 2011 فإن النتيجة واحدة ألا وهي مزيد تفاقم الأزمة على مستوى الموازنات المالية و السيسات الاقتصادية للبلاد. وعلى الرغم من التقدّم الحاصل في مكافحة جائحة كورونا وارتفاع معدلات التلقيح، لا يجب ان يحجب عنّا ذلك طبيعة التحديات الكبيرة المُقبلة في مجال المالية العمومية وتداعياتها على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.
حيث يشير قانون المالية 2022 إلى أن نسبة التدين قد بلغت 87٪ من الناتج المحلي الخام مما يخل من الموازنة المالية ويحد من إمكانيات الدولة للإصلاح عبر الإستثمار العمومي.
وفي هذا السياق الوطني الذي يتسم بشدة قيود الميزانية من ناحية، وبالتوقعات الشعبية بتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية الخانقة من ناحية أخرى، جاء قانون المالية 2022 مع الكثير من التوقعات لتغيير صيغة سابقاته في خضم غياب الاستقطاب والتنازع السياسي في البرلمان الذي غالباً تم تحميله مسؤولية عدم تمرير الإصلاحات اللازمة لتحسين حالة البلاد.
فهل جاء قانون المالية لسنة 2022 بالإصلاحات اللازمة للوفاء بوعود الفترة الانتقالية ومواجهة تحدياتها؟ وإلى أي مدى يمكن اعتبار ما جاء في ميزانية الدولة 2022 ضمانا للحقوق الاقتصادية والاجتماعية؟
أهم ميزات ميزانية 2022
ضُبطت ميزانية الدولة لسنة 2022 في حدود 47166 مليون دينار، أي بزيادة 6.6% مقارنة بقانون المالية التعديلي لسنة 2021، وبعجز في الميزانية; أي تجاوز المصاريف للمداخيل الكلية ب-8548 م.د. وعلى غرار الميزانيات السابقة، من المرتقب تعبئة ميزانية 2022 ب19983 م.د من موارد الاقتراض و 1310 م.د موارد خزينة أخرى، منها القرض الرقاعي الوطني.
وتمثل وثيقة النتائج الوقتية لتنفيذ ميزانية الدولة إلى موفى شهر مارس 2022 التي تم نشرها من قبل وزارة المالية فرصةً لمتابعة نسبة تحقيق توقعات قانون المالية في الثلاثية الأولى ومقارنتها بنفس الفترة في السنة الفارطة.
موارد الميزانية
تمثل الضرائب المباشرة وغير المباشرة أكثر من 90٪ من الموارد الذاتية للدولة (أي دون احتساب موارد الاقتراض). وينص دستور سنة 2014 في فصله العاشر على أن “تحمل التكاليف العامة واجب وفق نظام ضريبي عادل و منصف”.
أما دستور 2022 فينص كذلك في فصله الخامس عشر على أن “أداء الضرائب والتكاليف العامة واجب على كل شخص على أساس العدل والإنصاف…”. وقد أكد رئيس الجمهورية في المجلس الوزاري المنعقد حول قانون المالية في 22 ديسمبر 2021 على أهمية هذا المبدأ، مؤكداً أن الطبقات الفقيرة لا يجب أن تتحمل المزيد من العبء الجبائي في المرحلة القادمة.
رسم بياني 1: توزيع موارد الدولة الجبائية في قانون المالية 2022
تمثل الضرائب المباشرة وغير المباشرة أكثر من 90٪ من الموارد الذاتية للدولة (أي دون احتساب موارد الاقتراض)، فقد واصل قانون المالية لهذه السنة نفس التقسيم غير العادل للجهد الضريبي.
حيث نلاحظ من الرسم البياني أن ميزانية الدولة لسنة 2022 ترتكز بالأساس على الضريبة على الأجور (29.8%) والضرائب على الاستهلاك التي تمثل معاً 39.63% من الميزانية (الأداء على القيمة المضافة 28.43% والضريبة على الاستهلاك 11.20%). أما بالنسبة لل30.57٪ المتبقية، فهي متكونة من 11.7% من الضريبة على الشركات، 5.3% من الأداءات الديوانية و 13.56% من ضرائب غير مباشرة أخرى.
هنا يجدر التذكير بأن الاعتماد المفرط على الضرائب غير المباشرة يتعارض كليا مع مبدئي العدل والإنصاف الجبائيين المنصوص عليهما في الدستور.
أما بالنسبة إلى أداء جمع الضرائب في هذه السنة، فقد زادت عائدات الدولة بنسبة 20.1٪ بين مارس 2021 ومارس 2022، أي من 7507.8 م.د في مارس 2021 إلى 8575.1 م.د في مارس 2022.
تتكون الزيادة في الإيرادات الضريبية بين السنتين من:
- زيادة بنسبة 9٪ في إيرادات الضرائب على الأجور والرواتب من 1654 م.د إلى 1804 م.د.
- زيادة بنسبة 33٪ في الضريبة على الشركات من 694.8 م.د إلى 921.4 م.د في عام 2022. نظرًا لعدم وجود أي تغييرات كبيرة على معدلات الضرائب على الشركات في سنة 2022، من المرجح أن تكون الزيادة بنسبة 33٪ بسبب المقارنة مع فترة مارس 2021 التي عانت فيها تونس بشدة من أزمة الكوفيد.
- كما شهدت عائدات الضرائب غير المباشرة زيادة بـ 776.8 مليون دينار (18٪) ، وتتكون هذه الزيادة من:
- 13% زيادة في عائدات الأداء على القيمة المضافة،
- 11% زيادة في عائدات الضريبة على الاستهلاك،
- 32% زيادة في عائدات في الأداءات الديوانية،
- 27% في عائدات الضرائب غير المباشرة الأخرى مثل تعريفة 100 مليم التي تم تطبيقها
نفقات الميزانية: التقسيم الوزاري
من حيث الميزانيات الوزارية، التي يشار إليها باسم المهام، ظل التقسيم العام لميزانية الدولة يحافظ على هيكلها العام وأولوياتها المعتادة.
وهذا يعني أن وزارة التربية، وزارة الداخلية، وزارة الدفاع ووزارة الصحة، بقيت أعلى الوزارات من حيث النفقات مع ارتفاع ميزانية وزارة التجارة وتنمية الصادرات بنسبة 65.4٪ لتتصدر المرتبة الثالثة في هذا العام.
وفيما يتعلق بالمهام الأخرى التي شهدت أكبر تغيير:
- شهدت ميزانية وزارة الصحة انخفاضا ملموسا بلغ 618 مليون دينار. ويفسر هذا الانخفاض حسب التقسيم الاداري، بتراجع ب 418 مليون دينار على مستوى الرعاية الصحية الأساسية، ويفسر حسب التقسيم الاقتصادي بتراجع في نفقات الاستثمار ب 517 مليون دينار.
- من بين المهام التي شهدت ميزانياتها أكبر انخفاض نسبيا في 2022، شهدت المحكمة الدستورية إلغاء معظم ميزانيتها (75%). مما يشير إلى أن إنشاء هذه الهيئة لن يكون على جدول أعمال الحكومة لهذه السنة.
أما بالنسبة إلى المهام التي شهدت ميزانياتها أكثر نموا،
- تبرز ميزانية وزارة التجارة وتنمية الصادرات كأكبر مستفيد نسبيا هذه السنة. إذ شهدت ميزانية هذه الوزارة ارتفاعا ب-1568 مليون دينار حيث أضيف معظمها إلى ميزانية التجارة الداخلية مع انخفاض طفيف في ميزانية التجارة الخارجية.
- تمتعت وزارة النقل واللوجستيك بزيادة هامة في ميزانية النقل البري تقدر ب-218 مليون دينار.
- تمتعت وزارة الداخلية بزيادة 38٪ في ميزانيتها في سنة 2022. ويطرح دمج وزارة الشؤون المحلية مع وزارة الداخلية بعض النقاط المهمة التي يجب مناقشتها.
- أولاً حافظت الشؤون المحلية على أهميتها من حيث الميزانية حيث ارتفعت ميزانية البرنامج المخصص لها بنسبة 9.7٪ مقارنة بسنة 2021.
- وبالرغم من هذا الإدماج في الميزانية، فلا تفسر هذه الإضافة إجمالي 38٪ زيادة في ميزانية وزارة الداخلية. حيث إذا طرحنا الميزانية المضافة وزارة الشؤون المحلية، نجد أن وزارة الداخلية تمتعت بزيادة بنحو نصف مليار دينار في أنشطتها.
نفقات الميزانية: نتائج التنفيذ إلى موفي مارس 2022
حسب التقسيم الاقتصادي للميزانية (اجور ، استثمار ، تسير، تدخل)، نمت نفقات الدولة بين مارس 2021 ومارس 2022 ب3.2٪ من 8624.6 م.د في مارس 2021 إلى 8902.2 م.د حتى مارس 2022.
وعلى الرغم من أن الميزانية تبدو وكأنها قد نمت في هذه الفترة ، إلا أنه إذا عدّلنا التضخم بين 2021 و 2022، فقد انخفضت النفقات العمومية فعليًا إلى 8305.5 م.د (بدينار مارس 2021) أو بنسبة 4٪.
خلال هذه الفترة :
- انخفض الإنفاق على الأجور من 5148 في مارس 2021 إلى 5078.5 م.د (4738.1 م.د بدينار 2021). ويعود ذلك على الأرجح إلى إجراءات ترشيد نفقات التأجير وعدم صرف الساعات الإضافية في القطاع العام.
- من ناحية أخرى، زاد الاستثمار العمومي بنسبة 15.3٪ ليبلغ 527.2 م.د من 457.4م.د، وهي زيادة هامة ومنتظرة ، ومع ذلك، لازال الاستثمار لا يمثل إلا 5.9٪ فقط من الإنفاق الإجمالي إلى موفى مارس.
- انخفضت نفقات التسيير بنسبة 31.6٪ من 368 م.د إلى 251.8 م.د (234.9 بدينار مارس 2021).
خدمة الدين، عنصر الميزانية الخفي
على الرغم من أن ميزانية الدولة ظلت في الغالب متناسقة في أولويات التمويل للوزارات، الجدير بالملاحظة أن خلاص الديون العمومية قد شهد زيادة كبيرة فالسنوات الأخيرة لتحتل هذه النفقة المرتبة الأولى في ميزانية الدولة. حيث بلغت دفعات الدين سنة 2021 أعلى مستوياتها التاريخية متجاوزة قيمتها 14.9 مليار دينار مقارنةً ب11.1 مليار دينار لسنة 2020 و 9.6 مليار دينار لسنة 2019.
أما بالنسبة إلى سنة 2022, فقد حافظت خدمة الدين على هذا المستوى العالي (14.3 مليار دينار) مع تجاوز دفعات الديون الداخلية (8.2 مليار دينار) لدفعات الديون الخارجية (6 مليار دينار).
إذا أخذنا خلاص الدين بعين الاعتبار، فستتولى هذه الدفعات المرتبة الأولى في ميزانية الدولة، وهو ما يعادل مجموع ميزانيات تسع وزارات نعتبرها حيوية: الصحة، التشغيل، الشؤون الاجتماعية، التعليم العالي، الفلاحة، البيئة، النقل، المالية والتجهيز والإسكان (14.5 مليار دينار معا).
يمكن فهم خدمة الدين من خلال الطريقتين المستخدمتين لاحتسابها.
يعتمد التقسيم الأول على نوع النفقة، أي خلاص أصل الدين أو خلاص فائدته. وقد بلغ تسديد أصل الدين حتى موفى مارس الحالي 2625.8 مليون دينار مما يمثل زيادة بنسبة 67٪ على دفعات مارس 2021 التي بلغت 1574.2م.د. ومن المرتقب أن تبلغ هذه الدفعات 10025 مليون دينار في أخر السنة، أو 8.3% من الناتج الداخلي الخام.
أما بالنسبة لفائدة الدين، فقد نمت ب-13% لتبلغ 1245.2 مليون دينار في مارس 2022 مقابل 1097.2 م.د في مارس الفارط، مما يعني أن نسبة دفوعات فائدة الدين تمثل 47.4٪ من دفوعات أصل الدين في الثلاثي الأول للسنة. ومن المرتقب أن تبلغ دفوعات فائدة الدين 4326 مليون دينار في أخر السنة، أو 3.6% من الناتج الداخلي الخام.
تنذر هذه الأرقام بالخطر إذا فكرنا في نجاعة وكلفة منوال التنمية القائم على سياسة التدين على المدى الطويل وتأثيرها على ميزانية الدولة. إذ أصبحت الفائدة المضافة على أصل الدين تحتكر جزء هاماً من الميزانية يتجاوز ميزانية الصحة ووزارات أخرى ذات قيمة حيوية في الدولة.
وتبقى أهمية هذه النفقات خفيةً في الميزانية بسبب عدم احتساب هذين الجزئين معاً عند احتساب نفقات الدولة حيث يكتفي القانون في معظم الأحيان بذكر فائدة الدين فقط كنفقة.
رسم بياني 6: تطور خدمة الدين الداخلي والخارجي منذ 2010
يعتمد التقسيم الثاني لخدمة الدين على مصدره، أي داخلي (بنوك أو قروض ترقيعية) أو خارجي (دول أخرى، بنوك أجنبية، ومؤسسات مالية دولية). وإذا اعتبرنا هذا التقسيم، فتتكون دفعات الدين التونسي حتى موفى شهر مارس 2022 من 2607.8 مليون دينار لتسديد الدين الداخلي و1263.2 مليون دينار للدين الخارجي.
وإذا نظرنا إلى فائدة الدين، أو ربح المؤسسات المقرضة الداخلية والخارجية، فنجد أن الدولة قد دفعت 707.7 مليون دينار فائدة للبنوك التونسية ما بين جانفي ومارس 2022، أي ما يقارب مجموع ميزانيات مهمة السياحة، مهمة البيئة ومهمة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن معا في السنة كاملة. أما بالنسبة للدين الخارجي، فقد بلغ خلاص فائدة الدين الخارجي 537.5 مليون دينار حتى موفى مارس الحالي.
كما تسمح لنا الوثيقة الخاصة بتنفيذ الميزانية باحتساب هذه الدفعات في شهر واحد، إذ ارتفعت دفعات فائدة الدين الداخلي بين فيفري ومارس ب-249.1 مليون دينار أو ما يقارب ميزانية مهمة الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج فالسنة كاملة.
ميزانية الدعم في ضل الأزمة الأوكرانية
تتكون ميزانية الدعم من 3 أجزاء: دعم المنتجات الأساسية، دعم المحروقات، ودعم النقل. وقد رصدت ميزانية هذه السنة 7262 مليون دينار للدعم، منها 3771 م.د لدعم المنتجات الأساسية و2891 م.د لدعم المحروقات و600 م.د لدعم النقل، مقارنةً ب-6031 م.د كميزانية كلية للدعم في 2021.
تبين لنا نتائج تنفيذ الميزانية تأثير الحرب الروسية-الأوكرانية على نفقات الدعم في تونس. إذ كانت نفقات دعم المحروقات حتى موفى شهر مارس 2021 تساوي 100 مليون دينار، إلا أنها بلغت 755 م.د حتى موفى مارس الحالي مما يمثل زيادة غير مرتقبة ب-655% في هذه النفقة.
وبرغم من تأثير الحرب على بورصة القمح واسواقها العالمية، فلم تشهد نفقات دعم المواد الأساسية ارتفاعا، بل وعلى نقيض ذلك شهدت انخفاضا من 449 م.د في مارس 2021 إلى 400 م.د في مارس 2022.
ختاما، تعتبر الصعوبات في تمويل الميزانية الحالية من أعراض أزمة مالية عامة غير مسبوقة في تاريخ البلاد الحديث. حيث أدت الصدمتان الخارجيتان المتتاليتان، وهما الأزمة الصحية والحرب في أوكرانيا، إلى تفاقم الأزمة الهيكلية المرتبطة بمنوال التنمية المعطل في البلد.
فتؤكد جل المؤشرات الاقتصادية فشل الحكومات المتعاقبة على البلاد التونسية قبل وبعد الثورة في تحقيق النمو الاقتصادي والارتقاء بالخدمات العمومية وجودة الحياة. إذ بعد عقد من تأخير الإصلاحات الضرورية أصبحت الأزمة المالية الحالية تتطلب أكثر من أي وقت مضى نقلة نوعية في السياسات الجبائية التي لا تزال حتى يومنا هذا تنسج على خطى النظام الجبائي القائم منذ الثمانينات.
وبغض النظر عن التحديات والفرص التشريعية في الفترة السياسية الحالية، فإن قانون المالية لسنة 2022 لم يقدم الكثير من التجديد والمبادرة في مجال المالية العمومية ولم يتخذ الخطوات اللازمة لتخفيف الأزمة الاقتصادية.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن منظمة البوصلة قد نشرت ورقة سياسية تقترح فيها جملة من الإجراءات البديلة التي تتمحور حول تعبئة موارد الدولة الذاتية وتعزيز الاستثمار العمومي لمواجهة تداعي الخدمات العامة وانتشار الفقر وعدم المساواة بين الأفراد والجهات.