الاستشارة الالكترونيّة: الرئيس يستشير نفسه

16 مارس 2022

تختلف الاستشارات الشعبية باختلاف القوانين المنظمة لها كما يختلف طابعها الإلزامي عن بقية الآليات الأخرى مثل الاستفتاء، لكن هذه الاستشارات تشترك في كونها تقوم على منهجيات واضحة تمكّن من الحصول على نتائج تمثيليّة للمجتمع أو جزء من المجتمع محلّ الدّراسة. 

منذ إعلان رئيس الجمهوريّة على خارطة الطريق يوم 13 ديسمبر 2021 التي تنزّلت ضمنها الاستشارة كمرحلة أولى تمهيديّة لإجراء استفتاء يستبدل بموجبه دستور 2014 ومجموعة من القوانين الأخرى، لم تظهر أي منهجيات تستند عليها هذه الاستشارة. 

حيث نزّل رئيس الجمهوريّة الاستشارة الوطنية، أو كما أراد هو تسميتها بـ” الاستفتاء الالكتروني ” في سياق إرجاع السلطة للشعب وتشريكه في الإصلاحات، التي ينوي القيام بها بعد ما أعلن حالة الاستثناء وفعّل الفصل 80 من الدستور ليصبح بمقتضى ذلك جامعا للسلطتين التنفيذية والتشريعيّة. لكن الاختيارات  التي ذهب فيها رئيس الجمهوريّة من حيث عدم اعتماد مبدأ التشاركيّة والتكتّم عن مسار إعداد الاستشارة الوطنيّة، حوّلت هذه الاستشارة لآلية يتجاوز بها القيود الإجرائيّة و لإضفاء مشروعيّة على التغييرات الدستورية والقانونية التي يريد وضعها بصفة أحاديّة. 

الديمقراطيّة الالكترونيّة والآفاق الجديدة 

فتحت “الديمقراطية المتصلة” أو ما يعبّر عنها بالديمقراطية الإلكترونية آفاقًا جديدة لممارسة الحقوق المدنية والسياسية للشعوب مثل الحق في تقديم العرائض الالكترونية، والتصويت الإلكتروني، والاستشارات وغيره من الآليات. هذه الابتكارات أصبحت تدرّس في مجال العلوم السياسية، كما وضعت العديد من الدول إطار قانوني ينظمها. حيث يُطلب من المواطنين المشاركة بطريقة مباشرة في المسارات التأسيسية كما وقع مع مشروع الدستور الأوروبي في 2004، أو في أيسلندا سنة 2011 أو في سريلانكا سنة 2016. ولا تقتصر هذه الممارسة على الفترات التأسيسية، حيث يمكن أن يساهم المواطنون والمواطنات في كتابة قوانين مثل ما هو الحال مع قانون الجمهورية الرقمية سنة 2016 بفرنسا.  

اليوم، بفضل المنصات الالكترونية المخصصة للغرض أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح التعهيد أو الحشد الجماعي (Crowdsourcing) طريقة سهلة وشفافة للمشاركة في الحياة السياسية. حيث لا يتم مصادرة النقاش من قبل “أهل الاختصاص”. 

غالبا ما تنتج الأزمات السياسية والاقتصادية أو الحروب الأهلية تغيرات جذرية على الأنظمة والدساتير في العالم. ورغم اختلاف السياق التونسي عن غيره من الدول التي سارت نحو تشريك الشعوب في صياغة دساتير جديدة أو تعديلات كبرى في النظام السياسي، نجد نقاط تشابه مع عدة دول مثل سريلانكا أو أيسلندا التي حاولت التوجه للشعب قصد إبداء رأيه في تغيرات جوهرية محتملة على النظام السياسي أو حتى في صياغة وتأليف نصوص مشاريع الدساتير. 

في البداية، لاعتماد مثل هذه الآليات غير التقليدية، يجب أن يكون هناك إطار قانوني ينظمها. حيث لا يمكن أن يتقدم المواطنون والمواطنات لإبداء رأيهم حول مسألة ما دون أن تحدد مسبقا قوانين اللعبة، على غرار مدى إلزامية الاستشارة أو الحد الأدنى للمشاركة أو الجهة التي يمكنها إطلاقها كما هو الحال في القانون السويسري أو الكندي.  

ويعد مثال سريلانكا الأقرب للمثال التونسي، أين طلب رئيس الوزراء سنة 2016 من الشباب والأقليات التي عانت من الحروب الأهلية الدامية المشاركة عبر الأنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي لإبداء رأيهم وتقديم مقترحاتهم حول دستور جديد للبلاد. 

إلا أن سريلانكا لم تكن سباقة في مثل هكذا استشارات، حيث كانت جمهورية أيسلندا بين عامي 2011 و2013 أول دولة في العالم تقوم بإطلاق استشارة إلكترونية قصد كتابة دستور جديد للبلاد، وقد تم إنشاء منتدى يضم 950 مواطنًا بالإضافة إلى مجلس يضم 25 ممثلاً عن المجتمع المدني. لكن التجربة الأيسلندية لم تكلل بالنجاح، فالنص الذي تم صياغته لم تتم المصادقة عليه في النهاية بسبب انعدام التوافق السياسي من ناحية الشكل والأصل حول مسودة الدستور. فالنّص القانوني يختلف عن غيره من النصوص، حيث يجب أن يتسّم بالدقة لتجنب الأزمات السياسية على غرار ما وقع خلال العشرية الأخيرة في تونس من تأويلات خاطئة للقانون سواء كان ذلك من قبل المحاكم أو حتى في إرساء مؤسسات في غاية الأهمية مثل ما وقع مع قانون المحكمة الدستورية وغيره من الفصول الفضفاضة في دستور 2014. 

الاستشارة والاستفتاء 

غالبًا ما يتم الخلط بين المفهومين، تكمن نقاط الالتقاء في أن في حالة الاستشارة الشعبية كما في الاستفتاء، تتم دعوة المواطنات والمواطنين للتصويت أو الإجابة مباشرة على سؤال أو أكثر للتعبير عن إرادتهم ويكمن موطن الاختلاف في القوة الإلزامية للآليتين. 

بالنسبة للاستشارة الشعبية يتوجه أصحاب القرار للشعب قصد إبداء رأيهم حول قرارات محتملة أو بشأن موضوع معين يكون قابلا للتداول فيه. في هذا الإطار يمنع مثلا في عدة دول التشاور قصد تغيير قيم كونية متعلقة على سبيل المثال بالحقوق والحريات أو الضرائب أو الرجوع في المعاهدات الدولية. وبالتالي تهدف الاستشارة لأبداء الرأي فقط حيث يكون الخيار لصاحب المبادرة، أو صانع القرار في اعتماد الرأي من عدمه خلال أخذ القرار. 

في حالة اللجوء للاستفتاء، يُطلب من المواطنين والمواطنات الذين تتوفر فيهم صفة الناخب ممارسة سلطة اتخاذ القرار بشأن موضوع محدد وتكون نتائج التصويت ملزمة، ولا تكون هذه الالزاميّة مطلقة في كل الحالات حيث ترتبط أحيانا بشروط كنسبة المشاركة في الاستفتاء أو نسبة الموافقة على موضوع الاستفتاء أو غيرها من المعايير، وبناء على ذلك يجب أن تضع السلطة النتائج موضع التنفيذ كما هو الحال في الاستفتاء الذي نتج عنه خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. 

الاستشارة الالكترونيّة في تونس 

تعدّ الاستشارة شكلا من أشكال الدراسات السوسيولوجيّة باعتبارها تتوجّه لمجموعة من الناس بهدف معرفة رأيها من موضوع ما. هذا الشكل من الدراسات يخضع لقواعد معيّنة يجب أخذها بعين الاعتبار للوصول للهدف الأساسي من الدراسة وتجنب الذهاب في مقاربات توجيه المستجوبين. لعلّ من أبرز الأسئلة التي يجب طرحها منهجيا قبل الحديث عن مكوّنات الاستشارة هي: من نستشير؟ وعلى ماذا نستشير؟ لماذا نستشير؟ وكيف نستشير؟ 

عند الاعلان عنها، ذهب مفسرو الاستشارة لاعتبارها مجالا مفتوحا للمواطنين يسمح لهم بتقديم آرائهم في 5 محاور تهم المجال العام لكن لم يقدّم منذ ذلك الوقت أي تفسير أو توضيح لمنهجيّة هذه الدراسة التي وكما قلنا سابقا تندرج ضمن الدراسات السوسيولوجية.  

ففي الظاهر تستهدف الاستشارة كل المواطنين والمواطنات الذين يفوق سنّهم الستة عشر عاما لكن منهجيا لا يمكن الخروج باستنتاجات تمثيليّة دون أن يكون هناك أخذ بعين الاعتبار لتمثيليّة الفئات المكوّنة للمجتمع. فبالعودة للأشكال الممكنة لدراسة توجهات وآراء المجتمع نجد أن دراسة اتجاهات الرأي وسبر الآراء تعتمد أساسا على أسئلة مغلقة تمكّن من الحصول على نتائج كميّة ونسبا لاستطلاع الرأي. هذه النتائج الكميّة تفترض تحديد عيّنة تمثيليّة نضمن من خلالها تمثيل كل الشرائح والفئات المكوّنة للمستجوبين. 

في الاستشارة الالكترونيّة لم يتم الاعتماد على هذه المنهجية باعتبار أن المشاركين في الاستشارة لا يكوّنون عيّنة تمثيليّة لا على مستوى الفئات الاجتماعيّة أو الجندريّة أو المعطيات الجهويّة…  

من جهة أخرى وعلى الرّغم من أن رئيس الجمهوريّة أعلن يوم 27 جانفي 2022 أي بعد أسبوعين من انطلاق الاستشارة، عن أن 82 بالمئة من المواطنين يفضلون النظام الرئاسي، الا أن هذا الإعلان لا يتلاءم وفكرة الاستشارة التي تحتوي على جزء كيفي لا يمكن جعله كميا الا وهو مساحة التعبير الحر التي توجد في نهاية كل محور من المحاور. فلا ينبغي أن تتمحور الإستشارة حول معطيات ستؤول الى معطى كمي باعتبار الفكرة الأساسيّة في الاستشارة هي إبداء الرأي وليس استطلاعه. أي يجب أن نستشار على معطيات تخضع للتحليل الكيفي لأنها يجب أن تفتح للمواطن إمكانية الاقتراح وليس فقط الاختيار بين الإجابات. 

استنادا الى فكرتي غياب العيّنة التمثيليّة وعدم امكانيّة تطويع نتائج الاستشارة لمجرّد نسب، لا يمكن تنزيل الاستشارة الوطنيّة في خانة استطلاعات الرأي وسبر الآراء باعتبار أنها منهجيا لا تتلاءم مع هذا الشكل من الدراسات. 

فمن أبرز ما يميّز الاستشارة هو أنها دراسة كيفيّة يتم تشريك المواطنات والمواطنين عبرها لإبداء رأيهم في المواضيع التي يعتبرونها مهمّة أو تقترح عليهم من قبل السلطة ويكون ذلك عبر تشريكهم في كل مراحل الاستشارة بدأ باختيار المحاور أو على الأقل امكانيّة اقتراح إضافات في المحاور مرورا بامكانيّة إضافة أسئلة أو حلول، وصولا الى إبداء الرأي فيهم. فيمكن ألا تمثّل المحاور أو الأسئلة المقترحة مركز اهتمام للمستجوب ويمكن للمستجوب هنا اقتراح بدائل لا تكون من الأصل مدرجة ضمن الاحتمالات. 

ومن جهة أخرى، لم تعتمد الإستشارة الحالية مبدأ التشاركية، بل جعلت حتى من فضاء التعبير الحرّ الذي يلي كل محور مرتبطا به ولم تفسح المجال لتعبير حر يكون خارج السياق المفروض من المحور نفسه. يدفعنا هذا للقول بأن هذه الاستشارة لم تُأخذ بعين الاعتبار المواضيع التي قد تكون ذات الأولوية بالنسبة للمواطنين و المواطنات بل توجهت لهم لتستشيرهم على توجهات وخيارات تم تحديدها مسبقا وهو ما ينفي صفة الاستشارة عنها. 

على ماذا نستشير؟ 

في الفترة الأولى توجّه مُعدّو الاستشارة لوضع أسئلة موجّهة لولا تدارك الأمر فيما بعد بإضافة مجال التعبير الحرّ، لتتحوّل الأسئلة الى أسئلة نصف مُوجّهة الهدف منها تحصيل نسب واحصائيات وليس معرفة آراء المواطنات والمواطنين في الأمور التي يريدون الحديث عنها. 

في الصيغة الحالية يجد المستجوب نفسه مُجبرا على ابداء رأيه في مسائل ربّما لا يُعتقد أنها سبب فيما آل اليه الوضع من تدهور. فالمحاور الخمسة المقترحة أي “الشأن الاقتصادي”، “التنمية المستدامة”، “الشأن التعليمي والثقافي”، “الشأن الاجتماعي” و”جودة الحياة” على أهميّة مسمّياتها، يمكن اعتبارها توجيها للرأي العام لحلول مُسبقة يتحدّث عنها الرئيس وفريقه التفسيري منذ مدّة. 

وتجدر الإشارة إلى أن سياقات الأسئلة وأجوبتها جاءت في شكل مقترحات تتصف بالعمومية ويمكن اعتبارها توجهات عامة لسياسات عمومية مستقبلية خاصّة وأننا لا نعرف مدى توظيف نتائج الاستشارة في التغييرات اللاحقة والتي ستطال جملة من القوانين. 

من جهة ثانية لا نجد أي تفسير لأي مفهوم مُدرج ضمن الاستشارة، فعلى سبيل المثال يختار المستجوب بين النظام الرئاسي والنظام البرلماني والنظام المختلط، ثم بين “الاقتراع على الأفراد” و”على القائمات” وهي مفاهيم يطول شرحها تحتوي في داخلها على عديد الفرضيات فلا يمكن القول بأن هناك نظاما مختلطا بل هناك أنظمة مختلطة توّزع فيها الأدوار بين السلطة التشريعيّة والسلطة التنفيذية بطرق مختلفة. كذلك الأمر بالنسبة للاقتراع الذي يُمكن أن يكون بطرق معقدة لا يمكن فهمها دون تعريفها وشرح مختلف تصنيفاتها وسياقات تطبيقها. 

إن من مخاطر عدم التفسير وتعويم المفاهيم هو توجيه المستجوبين نحو الإجابات المتداولة في خطابات الرئيس وفريق تفسيره، و يمكن إعتبار أن في ذلك استغلال للفشل الذي امتازت به الدورة النيابيّة الأخيرة خاصة والذي عاشته البلاد طيلة السنوات الفارطة عامّة للدفع بالمشاركين لتبني فكرة تعديل نظام الاقتراع الحالي وتعديل النظام السياسي وغيرها من التعديلات. 

استشارة أم آليّة لتمهيد الطريق لمشروع الرئيس 

على الرغم من أن الموقع الالكتروني للاستشارة يطلق عليها اسم الاستشارة الوطنيّة الا أن رئيس الجمهوريّة ما انفك عن تسميتها استفتاء الكترونيا، فيما ذهب بعض المختصّين لاعتبارها محاولة في استبيان الآراء. لكن بالاستناد على ما سبق وعلى منهجيات الدراسات السوسيولوجية لا يمكن أن تكون هذه العمليّة استشارة باعتبار أن رئيس الجمهوريّة استعرض بعد مشاركة 100 ألف شخص نسبا فاقت في مجملها 80 بالمئة، أي حوّلها الى كمّ، وهو ليس الهدف من الاستشارات، وحتى إذا اعتبرنا أن هناك اشكالا في المفهوم فإن هذه التجربة لا يمكن أن نعتبرها استبيانا أو سبرا باعتبار أنها لم تأخذ معطى العيّنة التمثيليّة في منهجيتها، ويمكن أن نقول إنها غير ممثّلة فقط بالنظر للتفاوت الكبير في التمثيليّة بين الجنسين من المشاركين. 

وان سلمنا بهذا التمشي للاستشارة فإنها تفتقد لشرط علمي وتقني هام ألا وهو تحديد العيّنة وبناؤها الذي يقتضي دراسة الكليّة الاجتماعيّة وتشريحها لتحديد المتغيّرات من جنس وعمر وشرائح اجتماعيّة وجهات… 

بانتفاء هذه الخاصيّات لم يعد من المُمكن تنزيل الاستشارة إلّا في سياق ما بعد 25 جويلية الذي توجّه فيه رئيس الجمهوريّة الى الخيارات الفرديّة والتخلّي عن مبدأي التشاركيّة والشفافيّة، حيث لم يتم الإعلان عن الجهة التي أعدّت الأسئلة ومن هي الجهة التي ستألّف بين نتائج الاستشارة ولا نعلم أيضا كيف ستؤثّر هذه النتائج على الخيارات التي ستليها. وهذا ما يجعلنا نقول بأن هذه الآليّة وان كانت نظريا تبحث عن تشريك الشعب في اختيار مصيره إلّا أنها باطنيّا تخدم تصورات فرديّة ولن يكون هدفها في الأقصى إلّا تبرير ما يُريد أن يذهب إليه رئيس الجمهوريّة من «تعديلات «عبر خلق المبرّرات والدواعي الشكليّة لفرض مشروعه. 

« الشعب لا يريد » المشاركة في الاستشارة 

لم تصل نسبة المشاركة في الاستشارة الـ5 بالمائة من مجموع المواطنين البالغين من العمر فوق 16 سنة كما نصّت عليه شروط المشاركة. وبالرغم من أن رئيس الجمهوريّة حاول تبرير ذلك عبر بلاغ صدر عن رئاسة الجمهوريّة بتاريخ 22 فيفري 2022 اعتبر خلاله أن  المواطنين والمواطنات يتعرّضون لصعوبات بعضها ناتج عن جملة من الاختيارات الفنية التي يجب تذليلها، وبعضها مقصود من الذين يريدون تكميم الأفواه وإجهاض هذه التجربة الأولى من نوعها في تونس. إلا أن هذه الأسباب لا يمكن أن يعتدّ بها باعتبار أن النسبة ضعيفة جدّا وتواصل هذا الضعف حتى بعد هذا البلاغ وبعد اللقاء الذي جمع رئيس الجمهوريّة بالسيّد نزار بن ناجي، وزير تكنولوجيات الاتصال في نفس التاريخ، للبحث عن سُبل إنجاح الاستشارة. 

وقد تابعت منظّمة البوصلة نسق المشاركة في الاستشارة الوطنيّة يوما بيوم منذ انطلاقها لتقديم نسب المشاركة وتحليلها. وكانت هذه النتائج جدّ ضعيفة الى حدود قرب نهاية الاستشارة بالرغم من أن النسب تطوّرت قليلا في الأيام الأخيرة مقارنة بالأيام الأولى وهو ما  قد يفسّر بتكثيف الحملات التشجيعية على المشاركة عبر وسائل الاعلام العموميّة والخاصة وتكثيف الخيمات الدعائيّة في الأحياء. 

ضعف مشاركة المرأة في الاستشارة 

من اجمالي المشاركين الذي بلغ عددهم 415 ألف مشارك بلغ عدد النساء المشاركين 122 ألفا، ويظهر هذا الرقم مدى ضعف تمثيلية المرأة باعتبار أن نسبة النساء والرجال في المجتمع التونسي تقريبا متساوية (51,2% نساء و 48,8% رجال) في حين أن الرجال استأثروا بالنسبة الأعلى من المشاركة التي بلغت حوالي 70,7% من مجمل المشاركين في حين لم تتجاوز مشاركة النساء الثلث بنسبة 29,3%. هذا الفرق الشاسع سينعكس قطعا على النتائج التي ستكون غير تمثيليّة أو في أحسن الحالات معتلّة، باعتبار انعدام التمثيل النسبي لكلا الجنسين. 

نسب هزيلة في اغلب الجهات 

تراوحت النسب المشاركة في الجهات بين 2,76% و 8,87% وبالرغم من الارتفاع السريع الذي شهدته نسب المشاركة في الأسبوعين الأخيرين إلّا أن هذه الأرقام بقيت ضعيفة في مجمل الجهات وخاصة في المدن ذات الكثافة السكانيّة الكبيرة التي لم تتجاوز فيها نسبة المشاركة عتبة الـ5%، لتكون النسبة الوطنيّة للمشاركة في الاستشارة، الى حدود اصدار هذه الورقة، في حدود 4,85% من نسبة المواطنين والمواطنات البالغين من العمر أكثر من 16 سنة. 

الشباب أيضا لم يُقبل على الاستشارة 

أكد رئيس الجمهورية في العديد من المرات التي خاطب فيها العموم على أنه لن يتحاورمع من يعتبرهم خونة ومتسلقين، وأن الحوار سيكون بالأساس مع الشباب. 

بالرجوع لأسئلة الاستشارة الوطنية، لاحظنا غياب العديد من المواضيع الحارقة بالنسبة للشباب ككثرة القوانين الزجرية التي قد تطوعها السلطات حسب الرغبة والطلب، القانون عدد 52، البيع والشراء الإلكتروني… وهو ما قد يفسّر ضعف المشاركة بالنسبة للشريحة العمرية الأقل من 30 سنة التي بلغت 20,5% من نسبة المشاركين أي 7,69% من مجموع الشباب التونسي البالغ من العمر بين 16 و29 سنة. 

الانترنات لم يكن عائقا أمام المشاركة في الاستشارة 

بالرغم من التغطية الواسعة لشبكات الأنترنات في جل الجهات لم يساهم ذلك في تعزيز نسب المشاركين في الاستشارة، فتقنية الجيل الثالث تغطي في أغلب الجهات فوق الـ90% وتصل أحيانا للـ100% وهو ما يجعل غالبيّة المواطنات والمواطنين قادرين على الربط مع شبكة الأنترنات في أغلبية المناطق. نفس الشيء في علاقة بدور الشباب حيث بلغ عددها في موفى سنة 2019، 352 دار شباب حسب النشرية الاحصائيّة السنويّة لتونس 2015-2019 وبذلك يمكن القول بأن العزوف لم يكن مردّه امكانيات الوصول للاستشارة بقدر ما كان عدم اهتمام بها. 

الاستشارة الوطنية وحماية المعطيات الشخصية 

أثار إطلاق المنصة الإلكترونية الخاصة بالاستشارة الوطنية العديد من المخاوف في ما يتعلق بحماية المعطيات الشخصية، خاصة و أن شبح اختراقها أو تسريب معطيات المستعملين مازال يُطارد الأذهانا بالنظر لما حدث مع منصة التلاقيح إفاكس. 

وبالاستناد على القانون الأساسي المتعلق بحماية المعطيات الشخصية، طلبت رئاسة الحكومة بتاريخ 20 ديسمبر 2021 من الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية إبداء الرأي حول الجوانب التقنية والفنية المتعلقة بمنصة الاستشارة الوطنية لمعرفة ما إذا كانت الأخيرة متطابقة مع القانون التونسي والمعايير الدولية.  

وقد أصدرت الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية في بيان بتاريخ 18 جانفي 2022 رأيها في هذا الصدد، حيث لا تعتبر الهيئة أن المنصة الخاصة بالاستشارة الوطنية تعالج معطيات شخصية. وبالرغم من ضرورة إدخال رقم بطاقة التعريف الوطنية حتى يتسنى للمستعمل الولوج للمنصة، أكد رئيس الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية أن جميع المعطيات يتم فسخها بمجرد حصول المستعمل على كلمة عبور خاصه به. وبالتالي لم يعد المستعمل قابلا للتعرف عليه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وبذلك ينتفي الطابع الشخصي للمعطيات. 

ورغم كل ما سبق ذكره يبقى من الواجب تكرار عمليات الرقابة نظرا لما يشكله تجميع معطيات المستعملين والمستعملات من خطر على معطياتهم الشخصية وحتى سلامتهم الجسدية وذلك لحساسية الأسئلة المطروحة صلب المنصة. حيث تمنع أغلب التشاريع الحامية للمعطيات الشخصية معالجة المعطيات المتعلقة بالتوجهات السياسية والنقابية على سبيل المثال إلا بترخيص خاص من الجهات التي أناط القانون بعهدتها هذا الاختصاص. ويبقى هنا التساؤل حول من طوّر المنصّة وكيف تم اختياره وكيف كانت شروط هذه الاختيار؟ 

لم يبقى للرئيس إلا الرهان على الاستفتاء 

كل النسب التي قدّمناها سابقا وإذا أضفنا لها فكرتي انعدام المنهجيّة وغياب فكرة التشريك الفعلي يقودوننا للقول بأنه لم يعد من الممكن الحديث على تمثيلية تعبر عن وزن شعبي  لهذه الاستشارة باعتبار أنها لن تقدّم فكرة واضحة عن أولويات المواطنين والمواطنات من ناحية ولن تكون إلا تعلّة يستخدمها رئيس الجمهوريّة لإرساء ركائز لنظام حدّده قبل التفكير حتى في إجراء هذه الاستشارة.  في هذه الحالة لم يبق لرئيس الجمهوريّة إلا المراهنة على كثافة مشاركة المواطنات والمواطنين في الاستفتاء لتحصيل مشروعيّة لما يقترحه من تغييرات تشمل النظام السياسي وبقيّة التعديلات القانونية والسياسية.